قوله تعالى : { وأن } ، عطف على الأول ، { استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } ، أي : ارجعوا إليه بالطاعة . قال الفراء : { ثم } هنا بمعنى الواو ، أي : وتوبوا إليه ، لأن الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار . وقيل : أن استغفروا ربكم من المعاصي ثم توبوا إليه في المستأنف . { يمتعكم متاعاً حسناً } ، يعيشكم عيشا حسنا في خفض ودعة وأمن وسعة . قال بعضهم : العيش الحسن هو الرضى بالميسور والصبر على المقدور . { إلى أجل مسمىً } ، إلى حين الموت ، { ويؤت كل ذي فضل فضله } ، أي : ويؤت كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة . وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الآخرة في الجنة ، لأن الدرجات تكون بالأعمال . وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف ، ثم يدخل الجنة بعد . وقيل : يؤت كل ذي فضل فضله يعني : من عمل لله عز وجل وفقه الله فيما يستقبل على طاعته . { وإن تولوا } ، أعرضوا ، { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } ، وهو يوم القيامة .
{ 3 } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } عن ما صدر منكم من الذنوب { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلون من أعماركم ، بالرجوع إليه ، بالإنابة والرجوع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه .
ثم ذكر ما يترتب على الاستغفار والتوبة فقال : { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } أي : يعطيكم من رزقه ، ما تتمتعون به وتنتفعون .
{ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : إلى وقت وفاتكم { وَيُؤْتِ } منكم { كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : يعطي أهل الإحسان والبر من فضله وبره ، ما هو جزاء لإحسانهم ، من حصول ما يحبون ، ودفع ما يكرهون .
{ وَإِنْ تَوَلَّوْا } عن ما دعوتكم إليه ، بل أعرضتم عنه ، وربما كذبتم به { فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، فيجازيهم بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
والاستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه ، وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة . والتوبة بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب ، والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة . ولا توبة بغير هذين الدليلين ، فهما الترجمة العملية للتوبة ، وبهما يتحقق وجودها الفعلي ، الذي ترجى معه المغفرة والقبول . . فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام ، بينما هو لا يدين لله وحده ، ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه ؛ فلا قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله . .
والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة ، وقوام التبليغ . وهما عنصرا الترغيب والترهيب ، اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق !
والاعتقاد باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة ، وأن الخير الذي تدعو إليه الرسالات هو غاية الحياة ؛ ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه ؛ فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر ، الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها . أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون وينتكسون إلى درك العذاب . . وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف . فإن غلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة ، ولم تلج في العصيان . ومن ثم تصلح هذه الأرض لحياة البشر . وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير . فالاعتقاد باليوم الآخر ليس طريقا للثواب في الآخرة فحسب - كما يعتقد بعض الناس - إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا . والحافز على إصلاحها وإنمائها . على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفا في ذاته ، إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه ، وكرمه على كثير من خلقه ، ورفعه عن درك الحيوان ؛ لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان ؛ ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته .
ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة ، بعد توحيد الدينونة لله ، وإثبات الرسالة من عنده . . الدعوة إلى الاستغفار من الشرك والتوبة . . وهما بدء الطريق للعمل الصالح . والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام . إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح ، من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج . والجزاء المشروط :
( يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ) . .
والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا . أما في الآخرة فهو بالنوع والكم وبما لم يخطر على قلب بشر . فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة .
إننا نشاهد كثيرا من الطيبين الصالحين ، المستغفرين التائبين ، العاملين في الحياة . . وضيقا عليهم في الرزق . فأين إذن هو المتاع الحسن ؟
وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين !
ولا بد لإدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع ، وننظر إليها في محيطها الشامل العام ، ولا نقتصر منها على مظهر عابر .
إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح ، قائم على الإيمان بالله ، والدينونة له وحده ، وإفراده بالربوبية والقوامة ، وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة . . إلا كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة ؛ وإلا ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة . فإذا شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب ، فذلك شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله ، القائم على العدل بين الجهد والجزاء .
على أن الأفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعا حسنا ، حتى لو ضيق عليهم في الرزق ، وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم ، كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة ، وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله . وليس هذا خيالا وليس ادعاء . فطمأنينة القلب إلى العاقبة ، والاتصال بالله ، والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله . . عوض عن كثير ؛ ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ .
ولا نقول هذا لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلا على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية للعدالة . فالإسلام لا يرضى بهذا ، والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع . والجماعة المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد ، ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين . إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله ، المضيق عليهم في الرزق ، وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد الله المستغفرين التائبين العاملين بهدى الله .
خصصها بعض المفسرين بجزاء الآخرة . وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة ، على النحو الذي فسرنا به المتاع الحسن في الدنيا ؛ وهو متحقق في جميع الأحوال . وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها الفضل . يجده رضى نفسيا وارتياحا شعوريا ، واتصالا بالله وهو يبذل الفضل عملا أو مالا متجها به إلى الله . أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من الله وسماحة فوق الجزاء .
( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) . .
هو عذاب يوم القيامة . لا عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين . فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف إلى اليوم الموعود . ويقوي هذا ما بعده :
وقوله : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : وآمركم{[14469]} بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه ، وأن تستمروا{[14470]} على ذلك ، { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } أي : في الدنيا { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : في الدار الآخرة ، قاله قتادة ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، {[14471]}-{[14472]}
وقد جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد : " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله ، إلا أجِرْت بها ، حتى ما تجعل في فِي{[14473]} امرأتك " {[14474]} .
وقال ابن جرير : حدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن مسعود في قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات . فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات . ثم يقول : هلك من غلب آحاده أعشاره{[14475]} .
وقوله : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى ، وكذب رسله ، فإن العذاب يناله يوم معاده{[14476]} لا محالة ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوَاْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مّتَاعاً حَسَناً إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى وَيُؤْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } .
يقول تعالى ذكره : ثم فصلت آياته بأن لا تعبدوا إلا الله وبأن استغفروا ربكم . ويعني بقوله : وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم ، فيستر عليكم عظيم ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان والأصنام وإشراككم الاَلهة والأنداد في عبادته .
وقوله : ثُمّ تُوبُوا إلَيْهِ يقول : ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد وبراءتكم من عبادتها . ولذلك قيل : وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إلَيْهِ ولم يقل : وتوبوا إليه لأن التوبة معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله ، والاستغفار : استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين ، والعمل لله لا يكون عملاً له إلا بعد ترك الشرك به ، فأما الشرك فإن عمله لا يكون إلا للشيطان ، فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك ، لأن أهل الشرك كانوا يرون أنهم يطيعون الله بكثير من أفعالهم وهم على شركهم مقيمون .
وقوله : يُمَتّعْكُمْ مَتاعا حَسَنا إلى أجَلٍ مُسَمّى يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الاَيات : استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها ، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُمَتّعْكُمْ مَتاعا حَسَنا إلى أجَلٍ مُسَمّى فأنتم في ذلك المتاع فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه ، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين وأهل الشكر في مزيد من الله ، وذلك قضاؤه الذي قضى . وقوله : إلى أجَلٍ مُسَمّى يعني الموت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : الموت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إلى أجَلٍ مُسَمّى وهو الموت .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : الموت .
وأما قوله : وَيُؤْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ فإنه يعني : يثيب كلّ من تفضل بفضل ماله أو قوّته أو معروفه على غيره محتسبا مريدا به وجه الله ، أجْزَلَ ثوابه وفضله في الاَخرة . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَيُوءْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ قال : ما احتسب به من ماله ، أو عمل بيده أو رجله ، أو كلمه ، أو ما تطوّع به من أمره كله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : أو عمل بيديه أو رجليه وكلامه ، وما تطوّل به من أمره كله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : وما نطق به من أمره كله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَيُوءْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي في الاَخرة .
وقد رُوي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما :
حُدثت به عن المسيب بن شريك ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن مسعود ، في قوله : وَيُوءْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات . فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات . ثم يقول : هلك من غلب آحاده أعشاره .
وقوله : وإنْ تَوَلّوْا فإني أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يقول تعالى ذكره : وإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من إخلاص العبادة لله وترك عبادة الاَلهة وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة إليه فأدبروا مولين عن ذلك ، فإني أيها القوم أخاف عليكم عذاب يوم كبير شأنه عظيم هوله ، وذلك يَوْمَ تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ . وقال جلّ ثناؤه : وإنْ تَوَلّوْا فإنّ أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْمٍ كَبِيرٍ ولكنه مما قد تقدمه قوله ، والعرب إذا قدمت قبل الكلام قولاً خاطبت ثم عادت إلى الخبر عن الغائب ثم رجعت بعد إلى الخطاب ، وقد بينا ذلك في غير موضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
ومعنى الآية : استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه . و { ثم } مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه .
وقرأ الجمهور «يمتّعكم » بشد التاء ، وقرأ ابن محيصن «يمْتعكم » بسكون الميم وتخفيف التاء ، وفي كتاب أبي حاتم : «إن هذه القراءات بالنون » ، وفي هذا نظر . ، و { متاعاً } مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله { والله أنبتكم من الأرض نباتاً }{[6247]} وقيل نصب بتعدي { يمتعكم } لأنك تقول : متعت زيداً ثوباً . ووصف المتاع «بالحسن » إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا ، وأما من قال بأن «المتاع الحسن » هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة و «الأجل المسمى » : هو أجل الموت معناه { إلى أجل مسمى } لكل واحد منكم ، وهذا ظاهر الآية : و «اليوم الكبير » - على هذا - هو يوم القيامة .
وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا ، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا ، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام ، و «اليوم الكبير » - على هذا -كيوم بدر ونحوه ، والمجهلة _ في أي الأمرين يكون_ إنما هي بحسب البشر ، والأمر عند الله تعالى معلوم محصل ، والأجل واحد .
وقوله تعالى : { ويؤت كل ذي فضل فضله } أي كل ذي إحسان بقوله ، أو بفعله ، أو قوته ، أو بماله ، أو غير ذلك ، مما يمكن أن يتقرب به و { فضله } يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين وهذا المعنى ما وعد به تعالى وتضعيف الحسنة بعشر أمثالها ومن التضعيف غير المحصور{[6248]} لمن شاء ، وهذا التأويل تأوله ابن مسعود وقال : ويل لمن غلبت آحاده عشراته . ويحتمل أن يكون قول ابن مسعود موافقاً للمعنى الأول{[6249]} .
وقرأ جمهور «وإن تَولّوا » بفتح التاء واللام ، فبعضهم قال الغيبة ، أي فقل لهم : إني أخاف عليكم ، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر ، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر : «وإن تُولُوا » ، بضم التاء واللام وإسكان الواو{[6250]} .
وقوله تعالى : { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } . توعد بيوم القيامة : ويحتمل أن يريد به يوماً من الدنيا كبدر وغيره .
{ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله }
عطف على جلمة { لا تعبدوا إلا الله } [ هود : 2 ] وهو تفسير ثان يرجع إلى ما في الجملة الأولى من لفظ التفصيل ، فهذا ابتداء التفصيل لأنه بيان وإرشاد لوسائل نبذ عبادة ما عدا الله تعالى ، ودلائلُ على ذلك وأمثالٌ ونذر ، فالمقصود : تقسيم التفسير وهو وجه إعادة حرف التفسير في هذه الجملة وعدم الاكتفاء بالذي في الجملة المعطوف عليها .
والاستغفار : طلب المغفرة ، أي طلب عدم المؤاخذة بذنب مضى ، وذلك الندم .
والتوبة : الإقلاع عن عَمَل ذنب ، والعزمُ على أن لا يعود إليه .
و ( ثُم ) للترتيب الرتبي ، لأن الاعتراف بفساد ما هم فيه من عبادة الأصنام أهم من طلب المغفرة ، فإنّ تصحيح العزم على عدم العودة إليها هو مسمى التوبة ، وهذا ترغيب في نبذ عبادة الأصنام وبيان لما في ذلك من الفوائد في الدنيا والآخرة .
والمتاع : اسم مصدر التمتيع لما يُتمتع به ، أي يُنتفع . ويطلق على منافع الدنيا . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة [ الأعراف : 24 ] .
والحَسَن : تقييد لنوع المتاع بأنه الحَسن في نوعه ، أي خالصاً من المكدرات طويلاً بقاؤه لصاحبه كما دل عليه قوله : { إلى أجل مسمى } . والمراد بالمتاع : الإبقاءُ ، أي الحياة ، والمعنى أنه لا يستأصلهم . ووصفه بالحسن لإفادة أنها حياة طيبة .
و { إلى أجل } متعلق ب { يمتعكم } وهو غاية للتمتيع ، وذلك موعظة وتنبيه على أن هذا المتاع له نهاية ، فعلم أنه متاع الدنيا . والمقصود بالأجَل : أجل كل واحد وهو نهاية حياته ، وهذا وعد بأنه نعمة باقية طول الحياة .
وجملة : { يُؤْت كل ذي فضل فضله } عطف على جملة : { يمتعكم } . والإيتاء : الإعطاء ، وذلك يدل على أنه مِن المتاع الحسن ، فيعلم أنه إعطاء نعيم الآخرة . والفضل : إعطاء الخير . سمي فضلاً لأن الغالب أن فاعل الخير يفعله بما هو فاضل عن حاجته ، ثم تنوسي ذلك فصار الفضل بمعنى إعطاء الخير .
والفضل الأولُ : العمل الصالح ، بقرينة مقابلته بفضل الله الغني عن الناس .
والفضل الثاني المضاف إلى ضمير الجلالة هو ثواب الآخرة ، بقرينة مقابلته بالمتاع في الدنيا . والمعنى : ويؤت الله فضلَه كلّ ذي فَضْل في عمله .
ولما علق الإيتاء بالفضلين علم أن مقدار الجزاء بقدر المَجْزي عليه ، لأنه علق بذي فضل وهو في قوة المشتق ، ففيه إشعار بالتعليل وبالتقدير . وضبط ذلك لا يعلمه إلا الله ، وهو سر بين العبد وربه . ونظير هذا مع اختلاف في التقديم والتأخير وزيادة بيانٍ ، قولُه تعالى : { مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .
{ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير }
عطف على { وأن استغفروا ربكم } فهو من تمام ما جاء تفسيراً لـ { أحكمت آياته ثم فصلت } [ هود : 1 ] وهو مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى الناس .
وتَولوا : أصلُه تَتولوا ، حذفت إحدى التائين تخفيفاً .
وتأكيد جملة الجزاء ب { إن } وبكون المسند إليه فيها اسماً مخبراً عنه بالجملة الفعلية لقصد شدة تأكيد توقع العذاب .
وتنكير { يوم } للتهويل ، لتذهب نفوسهم للاحتمال الممكن أن يكون يوماً في الدنيا أو في الآخرة ، لأنهم كانوا ينكرون الحشر ، فتخويفهم بعذاب الدنيا أوْقع في نفوسهم . وبذلك يكون تنكير { يوم } صالحاً لإيقاعه مقابلاً للجَزَاءيْن في قوله : { يُمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } ، فيقدّر السامع : إن توليتم فإني أخاف عليكم عذابين كما رجوت لكم إن استغفرتم ثوابين .
ووصفه بالكبير لزيادة تهويله ، والمراد بالكبر الكبر المعنوي ، وهو شدة ما يقع فيه ، أعني العذاب ، فوصف اليوم بالكبر مجاز عقلي .