قوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله } أي رده على رسوله . يقال : فاء يفيء أي رجع ، وفاءها الله { منهم } أي من يهود بني النضير ، { فما أوجفتم } أوضعتم ، { عليه من خيل ولا ركاب } يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجيفاً وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير ، وأراد بالركاب الإبل التي تحمل القوم . وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم ، كما فعل بغنائم خيبر ، فبين الله تعالى في هذه الآية أنها فيء لم يوجف المسلمون عليها خيلاً ولا ركاباً ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة ولم يلقوا حرباً ، { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير } فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضري ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم ، فلبث يرفأ قليلاً ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلي يستأذنان ؟ قال : نعم ، فأذن لهما فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، -وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بني النضير- فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر ، قال : اتئدوا ، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة . يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ قالوا : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس ، فقال أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : نعم ، قال : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، فقال : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } إلى قوله : { قدير } ، وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر رضي الله عنه فعمل بها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنتم حينئذ جميع ، وأقبل على علي وعباس : تذكران أن أبا بكر فعل فيه كما تقولان والله يعلم إنه فيها صادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر والله يعلم إني فيه صادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة ، وأمركما جميع فقلت لكما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وبما عملت به فيها منذ وليتها ، وإلا فلا تكلماني فيها ، فقلتما : ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما ؟ أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكما .
ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي : من أهل هذه القرية ، وهم بنو النضير .
{ ف } إنكم يا معشر المسلمين { ما أَوْجَفْتُمْ } أي : ما أجلبتم وأسرعتم وحشدتم ، { عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } أي : لم تتعبوا بتحصيلها ، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم ، بل قذف الله في قلوبهم الرعب ، فأتتكم صفوا عفوا ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من تمام قدرته أنه لا يمتنع منه{[1033]} ممتنع ، ولا يتعزز من دونه قوي ، وتعريف الفيء في اصطلاح الفقهاء : هو ما أخذ من مال الكفار بحق ، من غير قتال ، كهذا المال الذي فروا وتركوه خوفا من المسلمين ، وسمي فيئا ، لأنه رجع من الكفار الذين هم غير مستحقين له ، إلى المسلمين الذين لهم الحق الأوفر فيه .
( ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء ، والله على كل شيء قدير ) .
والإيجاف : الركض والإسراع . والركاب : الجمال . والآية تذكر المسلمين أن هذا الفيء الذي خلفه وراءهم بنو النضير لم يركضوا هم عليه خيلا ، ولم يسرعوا إليه ركبا ، فحكمه ليس حكم الغنيمة التي أعطاهم الله أربعة أخماسها ، واستبقى خمسها فقط لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، كما حكم الله في غنائم بدر الكبرى . إنما حكم هذا الفيء أنه كله لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] هو الذي يتصرف فيه كله في هذه الوجوه . وذو القربى المذكورون في الآيتين هم قرابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن كانت الصدقات لا تحل لهم ، فليس لهم في الزكاة نصيب ، وأن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء . وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم . فجعل لهم من خمس الغنائم نصيبا ، كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيبا . فأما بقية الطوائف والمصارف فأمرها معروف . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] هو المتصرف فيها .
هذا هو حكم الفيء تبينه الآيات . ولكنها لا تقتصر على الحكم وعلته القريبة . إنما تفتح القلوب على حقيقة أخرى كبيرة : ( ولكن الله يسلط رسله على من يشاء ) . . فهو قدر الله . وهم طرف من هذا القدر يسلطه على من يشاء . ( والله على كل شيء قدير ) . .
بهذا يتصل شأن الرسل بقدر الله المباشر ؛ ويتحدد مكانهم في دولاب القدر الدوار . ويتبين أنهم - ولو أنهم بشر - متصلون بإرادة الله ومشيئته اتصالا خاصا ، يجعل لهم دورا معينا في تحقيق قدر الله في الأرض ، بإذن الله وتقديره . فما يتحركون بهواهم ، وما يأخذون أو يدعون لحسابهم . وما يغزون أو يقعدون ، وما يخاصمون أو يصالحون ، إلا لتحقيق جانب من قدر الله في الأرض منوط بهم وبتصرفاتهم وتحركاتهم في هذه الأرض . والله هو الفاعل من وراء ذلك كله . وهو على كل شيء قدير . .
يقول تعالى مبينًا لما الفيء وما صفته ؟ وما حكمه ؟ فالفيء : فكلّ مال أخذ من الكفار بغير{[28537]} قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، كأموال بني النضير هذه ، فإنها مما لم يُوجف المسلمون عليه {[28538]} بخيل ولا ركاب ، أي : لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة ، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاءه الله على رسوله ؛ ولهذا تصرف فيه كما شاء ، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله ، عز وجل ، في هذه الآيات ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي : من بني النضير ، { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } يعني : الإبل ، { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو قدير لا يغالب ولا يمانع ، بل هو القاهر لكل شيء .
حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان { وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني بني النضير فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء جمعيا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ } قال : يذكر ربهم أنه نصرهم ، وكفاهم بغير كراع ، ولا عدّة في قريظة وخيبر ، ما أفاء الله على رسوله من قريظة ، جعلها لمهاجرة قريش .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله { وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }قال : أمر الله عزّ وجلّ نبيه بالسير إلى قريظة والنضير وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد ، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها . قال : والإيجاف : أن يوضعوا السير وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان من ذلك خيبر وَفدَك وقُرًى عَرَبيةً ، وأمر الله رسوله أن يعد لينبع ، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتواها كلها ، فقال ناس : هلا قسّمها ، فأنزل الله عزّ وجلّ عذره ، فقال : { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْل القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبى وَاليتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ ثم قال : وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا . . . }الآية .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ }يعني يوم قُرَيظة .
وقوله : { وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَنْ يَشاء }أعلمك أنه كما سلّط محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضير ، يخبر بذلك جلّ ثناؤه أن ما أفاء الله عليه من أموال لم يُوجِفِ المسلمون بالخيل والركاب ، من الأعداء مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى . يقول : فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح إلا عنوة ، ، فتقع فيها القسمة { وَاللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }يقول : والله على كلّ شيء أراده ذو قدرة لا يَعجزه شيء ، وبقُدرته على ما يشاء سلّط نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما سلط عليه من أموال بني النضير ، فحازه عليهم .
وقوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم } الآية ، إعلام إنما أخذ لبني النضير ومن فدك فهو خاص للنبي صلى الله عليه وسلم وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها بل على حكم خمس الغنائم ، وذلك أن بني النضير لم يوجف عليها ، ولا قوتلت كبير قتال ، فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قوت عياله وقسم سائرها في المهاجرين ، ولم يعط منها الأنصار شيئاً ، غير أن أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف{[11022]} شكيا عظيمة فأعطاهما ، هذا قول جماعة من العلماء ، وفي ذلك قول عمر بن الخطاب : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عليه مما لم يوجف عليه المسلمون ب { خيل ولا ركاب } فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة ، وما بقي منها جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله . قال بعض العلماء : وكذلك كل ما فتح على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة والوجيف : دون التضريب ، يقال وجف الفرس وأوجفه الراكب والإيجاف : سرعة السير والاجتهاد فيه .
يجوز أن يكون عطفاً على جملة { ما قطعتم من لينة } [ الحشر : 5 ] الآية فتكون امتناناً وتكملة لمصارف أموال بني النضير .
ويجوز أن تكون عطفاً على مجموع ما تقدم عطفَ القصة على القصة والغرض على الغرض للانتقال إلى التعريف بمصير أموال بني النضير لئلا يختلف رجال المسلمين في قسمته . ولبيان أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة أموال بني النضير هو عدلٌ إن كانت الآية نزلت بعد القسمة وَمَا صْدَقُ { ما أفاء الله } هو ما تركوه من الأرض والنخل والنقض والحطب .
والفَيء معروف في اصطلاح الغزاة ، ففعل أفاء أعطَى الفيء ، فالفيء في الحروب والغارات ما يظفر به الجيْشُ من متاع عدوّهم وهو أعم من الغنيمة ولم يتحقق أيمة اللغة في أصل اشتقاقه فيكون الفيء بقتال ويكون بدون قتال ، وأما الغنيمة فهي ما أخذ بقتال .
وضمير { منهم } عائد إلى { الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 2 ] الواقع في أول السورة وهم بنو النضير . وقيل : أريد به الكفار ، وأنه نزَّلَ في فيء فدك فهذا بعيد ومخالف للآثار .
وقوله : { فما أوجفتم عليه } خبر عن ( ما ) الموصولة قرن بالفاء لأن الموصول كالشرط لتضمنه معنى التسبب كما تقدم آنفاً في قوله : { فبإذن الله } [ الحشر : 5 ] .
وهو بصريحه امتنان على المسلمين بأن الله ساق لهم أموال بني النضير دون قتال ، مثل قوله تعالى : { وكفى الله المؤمنين القتال } [ الأحزاب : 25 ] ، ويفيد مع ذلك كناية بأن يقصد بالإِخبار عنه بأنهم لم يُوجفوا عليه لازمُ الخبر وهو أنه ليس لهم سبب حقَ فيه . والمعنى : فما هو من حقّكم ، أو لا تسألوا قسمته لأنكم لم تنالوه بقتالكم ولكن الله أعطاه رسوله صلى الله عليه وسلم نعمة منه بلا مشقة ولا نصَب .
والإِيجاف : نوع من سَير الخيل . وهو سَير سريع بإِيقاع وأريد به الركض للإِغارة لأنه يكون سريعاً .
والركابُ : اسم جمع للإِبل التي تُرْكبُ . والمعنى : ما أغرتم عليه بخيل ولا إبل .
وحرف ( على ) في قوله تعالى : { فما أوجفتم عليه } للتعليل ، وليس لتعدية { أوجفتم } لأن معنى الإِيجاف لا يتعدى إلى الفيء بحرف الجر ، أو متعلقٌ بمحذوف هو مصدر { أوجفتم } ، أي إيجافاً لأجله .
و { مِن } في قوله : { من خيل } زائدة داخلة على النكرة في سياق النفي ومدخول { مِن } في معنى المفعول به ل { أوجفتم } أي ما سقتم خيلاً ولا ركاباً .
وقوله : { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } استدراك على النفي الذي في قوله تعالى : { فما أوجفتم عليه } لرفع توهم أنه لا حقّ فيه لأحد . والمراد : أن الله سلط عليه رسوله صلى الله عليه وسلم فالرسول أحق به . وهذا التركيب يفيد قصراً معنوياً كأنه قيل : فما سلطكم الله عليهم ولكن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله تعالى : { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } إيجاز حذف لأن التقدير : ولكن الله سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم والله يسلط رُسله على من يشاء وكان هذا بمنزلة التذييل لعمومه وهو دال على المقدر .
وعموم { من يشاء } لشمول أنه يسلط رسله على مقاتلين ويسلطهم على غير المقاتلين .
والمعنى : وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو بتسليط الله رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم والله يسلط رسله على من يشاء . فأغنى التذييل عن المحذوف ، أي فلا حقّ لكم فيه فيكون من مال الله يتصرّف فيه رسوله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور من بعده .
فتكون الآية تبييناً لما وقع في قسمة فيء بني النضير . ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقسمه على جميع الغُزاة ولكن قسمه على المهاجرين سواء كانوا مِمَّن غزوا معهُ أم لم يغزوا إذ لم يكن للمهاجرين أموالٌ . فأراد أن يكفيهم ويكفي الأنصار ما مَنحوه المهاجرين من النخيل . ولم يعط منه الأنصار إلا ثلاثة لشدة حاجتهم وهم أبو دَجانة ( سِماك بن خزينة ) ، وسَهلُ بن حنيف ، والحارث بن الصِّمَّة . وأعطى سعد بنَ معاذ سيفَ أبي الحُقيق ، وكل ذلك تصرّف باجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله جعل تلك الأموال له .
فإن كانت الآية نزلت بعد أن قسمت أموال النضير كانت بياناً بأن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حقٌّ ، أمره الله به ، أو جعله إليه ، وإن كانت نزلت قبل القسمة ، إذ روي أن سبب نزولها أن الجيش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تخميس أموال بني النضير مثل غنائم بدر فنزلت هذه الآية ، كانت الآية تشريعاً لاستحقاق هذه الأموال .
قال أبو بكر ابن العربي : « لا خلاف بين العلماء أن الآية الأولى خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي هذه الآية الأولى من الآيتين المذكورتين في هذه السورة خاصة بأموال بني النضير ، وعلى أنها خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء . وبذلك قال عمر بن الخطاب بمحضر عثمان ، وعبد الرحمان بن عوف ، والزبير ، وسعد ، وهو قول مالك فيما روَى عنه ابن القاسم وابن وهب . قال : كانت أموال بني النضير صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمسها . واختُلف في القياس عليها كل مال لم يوجف عليه . قال ابن عطية : قال بعض العلماء وكذلك كل ما فتح الله على الأيمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة ا ه . وسيأتي تفسير ذلك في الآية بعدها .