تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

الآية 6 وقوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } قال : حق هذه الآية أن تكون مؤخرة ، وأن يكون قوله عز وجل : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } متقدما{[20887]} لوجهين :

أحدهما : أنه ذكر فيه الواو ، والواو لا يبتدأ بها إلا في القسم .

والثاني : أن قوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم }[ والواو ]{[20888]} حرف كناية ، والكناية لا بد لها من معرفة ، تعطف عليها ، فيرجع إليها . فلذلك قلنا : إن حقه التأخير ، وحق الثانية التقديم ، وعلى ذلك قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

وإذا كان كذلك فوجهه أن الذي وجب صرفه إلى الأصناف إنما هو الخمس ، وأوجب ههنا من كل الغنيمة ، فأبان بقوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم } أنه إنما تصرف هذه أربعة{[20889]} الأخماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم دونهم لهذا المعنى أنهم لم يوجفوا عليه من خيل ولا ركاب ؛ أشار إلى أن استحقاقهم أربعة{[20890]} الأخماس بسبب إيجاف الخيل والركاب .

وإن كانت القراءة على ما يتلى للحال ، ليست على التقديم والتأخير فإنه يحتمل أن يكون قوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم } صلة قوله : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين }{ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } .

وإن كان بناء على ذلك استقام أن يذكر بحرف الواو [ وهو ]{[20891]} حرف الكناية .

قال رضي الله عنه : المنافقون{[20892]} وأهل الضعف من المؤمنين الذين آمنوا بالتقليد يظنون في هذا الموضع أن كيف خص هذه الغنيمة قرابته والمهاجرين الذين هاجروا إليه ؟ وكيف أثر بها نفسه ؟ والجواب عن هذا أن هؤلاء الأصناف قوم عامة المسلمين ، تحمل مؤونتهم لولا هذه الغنيمة .

ومعلوم أن أنفس المسلمين ببذل ما عليهم من تلك الأمانة أسخى منه لو صرف إلى كل واحد منهم على الإشارة إليه من ملكه الخاص .

وعلى هذه العبارة تجري مسائل لنا :

أحدها : ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جعل العقل على أهل الديوان لأن ذلك يخرج مخرج المؤونة .

ومعلوم أن المؤونة على عامتهم ، فيدل ما رجع من هذا الحق إلى تلك العامة أسهل عليهم ، لو صرف إلى خاصتهم . وكذلك قوله : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا }[ الممتحنة : 11 ] .

ومعلوم أن منع تلك الزوجة عن أن يذهب إلى الحرب بشيء من مال زوجها كان واجبا على العامة ، وكذلك المسلمون إذا أصابوا غنيمة ، وفيها مال مسلم ، قد غلب عليها المشركون{[20893]} ، أنه ما دام الملك للعامة ، ولم يقسم ، يرد عليه من غير بدل . وإذا قسموا ، واختص كل واحد بملكه لم يأخذه إلا ببدل ، فكذلك الأول ، والله أعلم .

قال الفقيه ، رحمة الله عليه : والذي يجب من جهة العرف والشريعة أن يكون تحمل مؤنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته . أما من جهة العرف فهو أن من عمل لغيره كانت مؤنته على ذلك العول له ، وكذلك من جهة الشريعة .

ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم بأمور أمته في أمور دنياهم وآخرتهم . وإذا كان الأمر على ما ذكرنا [ كان ]{[20894]} أولى ما يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو مال العامة ، وذلك هو الفيء . هذا لو اختصه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه . فكيف وقد قسمه بين الفقراء وأهل الحاجة ، ولم يوجده لنفسه ؟ .

ووجه آخر في هذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي }[ البخاري 335 ] وقال : { نصرت بالرعب مسيرة شهرين }[ الطبراني في الكبير 11056 ] فلو اختص ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز له بما قال ، ولكن الله جعل الفيء له بين من كان تحمل مؤنتهم على المسلمين لولا هذا الفيء كي تكون المنة له على أمته ولئلا يكون لأحد من أمته عنده عليه السلام يد ولا صنيعة ، والله أعلم .

ووجه آخر : أنه لم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسب شيء من الدنيا وفضولها حتى يصطنع من فضولها بالمعروف ، فجعل الله له الفيء ليكتسب به الفضائل والمعروف ، والله أعلم .

وفي قوله عليه السلام : { نصرت بالرعب مسيرة شهرين } دلالة أن ما أفاء الله على رسوله ، وأعطاه ، فهو له خاصة ، يصنع به ما شاء ، ويفرقه في من شاء .

والقول عند أصحابنا في الإمام إذا أعطاه أهل الحرب أن يشرك{[20895]} فيه قومه لأن هبة الأئمة إنما هي لقومهم ، و كانت هبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نصر بالرعب ، فجاز أن يختص لنفسه ، والله أعلم .


[20887]:في الأصل و م: متقدمة.
[20888]:ساقطة من الأصل و م.
[20889]:في الأصل و م: الأربعة.
[20890]:في الأصل و م: الأربعة.
[20891]:في الأصل و م: و.
[20892]:في الأصل و م: المنافقين.
[20893]:من في الأصل ك المشركين.
[20894]:من م، ساقطة من الأصل.
[20895]:في الأصل و م: يشترك.