معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

قوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله } أي رده على رسوله . يقال : فاء يفيء أي رجع ، وفاءها الله { منهم } أي من يهود بني النضير ، { فما أوجفتم } أوضعتم ، { عليه من خيل ولا ركاب } يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجيفاً وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير ، وأراد بالركاب الإبل التي تحمل القوم . وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم ، كما فعل بغنائم خيبر ، فبين الله تعالى في هذه الآية أنها فيء لم يوجف المسلمون عليها خيلاً ولا ركاباً ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة ولم يلقوا حرباً ، { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير } فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضري ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم ، فلبث يرفأ قليلاً ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلي يستأذنان ؟ قال : نعم ، فأذن لهما فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، -وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بني النضير- فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر ، قال : اتئدوا ، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة . يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ قالوا : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس ، فقال أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : نعم ، قال : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، فقال : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } إلى قوله : { قدير } ، وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر رضي الله عنه فعمل بها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنتم حينئذ جميع ، وأقبل على علي وعباس : تذكران أن أبا بكر فعل فيه كما تقولان والله يعلم إنه فيها صادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر والله يعلم إني فيه صادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة ، وأمركما جميع فقلت لكما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وبما عملت به فيها منذ وليتها ، وإلا فلا تكلماني فيها ، فقلتما : ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما ؟ أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكما .