قوله تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } ، يقول : اذكروا يا معاشر المهاجرين إذ أنتم قليل في العدد ، مستضعفون في أرض مكة ، في ابتداء الإسلام . قوله تعالى : { تخافون أن يتخطفكم الناس } ، يذهب بكم الناس ، يعني : كفار مكة ، وقال عكرمة : كفار العرب ، وقال وهب : فارس والروم .
قوله تعالى : { فآواكم } ، إلى المدينة .
قوله تعالى : { وأيدكم بنصره } ، أي : قواكم يوم بدر بالأنصار ، وقال الكلبي : قواكم يوم بدر بالملائكة .
قوله تعالى : { ورزقكم من الطيبات } ، يعني : الغنائم ، التي أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم .
26 وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
يقول تعالى ممتنا على عباده في نصرهم بعد الذلة ، وتكثيرهم بعد القلة ، وإغنائهم بعد العيلة .
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ أي : مقهورون تحت حكم غيركم تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أي : يأخذونكم .
فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فجعل لكم بلدا تأوون إليه ، وانتصر من أعدائكم على أيديكم ، وغنمتم من أموالهم ما كنتم به أغنياء .
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اللّه على منته العظيمة وإحسانه التام ، بأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا .
ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال ؛ فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة - التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة - بما كان من ضعفها وقلة عددها ، وبما كان من الأذى الذي ينالها ، والخوف الذي يظللها . . وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا . . فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله . ولا عن تكاليف هذه الحياة ، التي أعزها بها الله ، وأعطاها وحماها :
( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ، تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم ، وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم ؛ واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله . . اذكروا أيام الضعف والخوف ، قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين ، وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون . . ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين . يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله !
ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف :
( تخافون أن يتخطفكم الناس ) . .
وهو مشهد التربص الوجِل ، والترقب الفزع ، حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة ، والحركات المفزَّعة ، والعيون الزائغة . . والأيدي تمتد للتخطف ؛ والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس !
ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم ، في ظل الله الذي آواهم إلى حماه :
( فآواكم ، وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات ) . .
وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا :
فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة ، ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية . صوت الرسول الأمين الكريم . . ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه ، وهذا المشهد وذلك معروضان عليه ، ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه ?
على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك . . كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهموحاضرهم . . ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق . .
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس ؛ قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين ، ولا تذوقت المذاقين . . ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك . ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى :
( إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ) . .
فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله ؛ وأن تترقب في يقين وثقة ، موعود الله للعصبة المسلمة ، موعوده الذي حققه للعصبة الأولى ، ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه ، وتصبر على تكاليفه . . وأن تنتظر قوله تعالى :
( فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) .
وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق - لا مع ظواهر الواقع الخادع - ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع !
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثَّرهم ، ومستضعفين خائفين فقوَّاهم ونصرهم ، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات ، واستشكرهم{[12842]} فأطاعوه ، وامتثلوا جميع ما أمرهم . وهذا{[12843]} كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطرين{[12844]} يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله ، من مشرك ومجوسي ورومي ، كلهم أعداء لهم{[12845]} لقلتهم وعدم قوتهم ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة ، فآواهم إليها ، وقَيَّض لهم أهلها ، آووا ونصروا يوم بدر وغيره وآسَوا بأموالهم ، وبذلوا مُهَجهم في طاعة الله وطاعة رسوله .
قال قتادة بن دِعَامة السَّدوسي ، رحمه الله ، في قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ } قال : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذُلا وأشقاه عَيْشًا ، وأجوعه بطونًا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالا مكعومين على رأس حجر ، بين الأسدين فارس والروم ، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيًّا ، ومن مات منهم رُدِّيَ في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قَبِيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا لله نعمه ، فإن ربكم مُنْعِم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله [ تعالى ]{[12846]} {[12847]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرُوَاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } . .
وهذا تذكير من الله عزّ وجلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناصحة . يقول : أطيعوا الله ورسوله أيها المؤمنون ، واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم ولا تخالفوا أمره ، وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدّة ، فإن الله يهوّنه عليكم بطاعتكم إياه ويعجل لكم منه ما تحبون ، كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليل يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا جميعكم فآوَاكُمْ يقول : فجعل لكم مأوى تأوون إليه منهم . وأيّدَكُمْ بِنَصْرِهِ يقول : وقوّاكم بنصره عليهم ، حتى قتلتم منهم من قتلتم ببدر . وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطّيّباتِ يقول : وأطعمكم غنيمتهم حلالاً طيبا . لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول : لكي تشكروا على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم .
واختلف أهل التأويل في الناس الذين عنوا بقوله : أنْ يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فقال بعضهم : كفار قريش . ذكر من قال ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : وَاذكُرُوا إذ أنْتُمْ قَليلٌ مُسْتَضعَفُونَ فِي الأرضِ تَخافُونَ أن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ قال : يعني بمكة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي أو قتادة أو كليهما : وَاذكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَليلٌ مُسْتَضْعَفُونَ أنها نزلت في يوم بدر ، كانوا يومئذٍ يخافون أن يتخطفهم الناس ، فآواهم الله وأيدهم بنصره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه .
وقال آخرون : بل عُني به غيرُ قريش . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرني أبي ، قال : سمعت وهب بن منبه يقول في قوله عزّ وجلّ : تَخافُونَ أنْ يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ قال : فارس .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد ، أنه سمع وهب بن منبه يقول ، وقرأ : وَاذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخافُونَ أنْ يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ والناس إذ ذاك : فارس ، والروم .
قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ قال : كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاّ ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالاً من عاش منهم عاش شقيّا ، ومن مات منهم ردّي في الناس ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشرّ منهم منزلاً . حتى جاء الله بالإسلام ، فمكّن به في البلاد ، ووسّع به في الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس ، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحبّ الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله تبارك وتعالى .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : عُني بذلك مشركو قريش لأن المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم ، لأنهم كانوا أدنى الكفار منهم إليهم ، وأشدّهم عليهم يومئذٍ مع كثرة عددهم وقلة عدد المسلمين .
وأما قوله : فَآوَاكُمْ فإنه يعني : آواكم المدينة ، وكذلك قوله : وأيّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بالأنصار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَآوَاكُمْ قال : إلى الأنصار بالمدينة . وأيّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أيدهم بنصره يوم بدر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : فَآوَاكُمْ وأيّدَكُمْ بِنَصْرهِ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطيّباتِ يعني بالمدينة .
{ واذكروا إذ أنتم قليل مُستضعفون في الأرض } أرض مكة يستضعفكم قريش ، والخطاب للمهاجرين . وقيل للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم { تخافون أن يتخطّفكم الناس } كفار قريش أو من عداهم فإنهم كانوا جميعا معادين لهم مضادين لهم . { فآواكم } إلى المدينة ، أو جعل لكم مأوى تتحصنون به عن أعاديكم . { وأيّدكم بنصره } على الكفار أم بمظاهرة الأنصار ، أو بإمداد الملائكة يوم بدر . { ورزقكم من الطيبات } من الغنائم . { لعلكم تشكرون } هذه النعم .
وقوله تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل } الآية ، هذه آية تتضمن تعديد نعم الله على المؤمنين ، و { إذ } ظرف لمعمول { واذكروا } ، تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل ، ولا يجوز أن تكون { إذ } ظرفاً للذكر وإنما يعمل الذكر في { إذ } لو قدرناها مفعولة{[5290]} ، واختلف الناس في الحال المشار إليها بهذه الآية ، فقالت فرقة هي الأكثر : هي حال مكة في وقت بدأة{[5291]} الإسلام ، والناس الذين يخاف «تخطفهم » كفار مكة ، و «المأوى » على هذا التأويل المدينة والأنصار ، و «التأييد بالنصر » وقعة بدر وما أنجز معها في وقتها ، و { الطيبات } الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به ، وقالت فرقة : الحال المشار إليها هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر ، والناس الذي يخاف تخطفهم على هذا عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوف من بعضهم ، والمأوى على هذا والتأييد بالنصر هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو ، و { الطيبات } الغنيمة .
قال القاضي أبو محمد : وهذان قولان يناسبان وقت نزول الآية لأنها نزلت عقب بدر ، وقال وهب بن منبه وقتادة : الحال المشار إليها هي حال العرب قاطبة ، فإنها كانت أعرى الناس أجساماً وأجوعهم بطوناً وأقلهم حالاً ونعماً ، والناس الذين يخاف «تخطفهم » على هذا التأويل فارس والروم ، و «المأوى » على هذا هو النبوءة والشريعة ، و «التأييد بالنصر » هو فتح البلاد وغلبة الملوك ، و { الطيبات } هي نعم المآكل والمشارب والملابس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يرده أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول ، وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب في هذه الآية في آخر زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإن تمثل أحد بهذه الآية لحالة العرب فتمثله صحيح ، وأما أن تكون حالة العرب هي سبب الآية فبعيد لما ذكرناه ، وقوله { لعلكم تشكرون } ترج بحسب البشر متعلق بقوله { واذكروا } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكرهم النعم، فقال: {واذكروا إذ أنتم قليل}، يعنى المهاجرين خاصة، {مستضعفون في الأرض} يعنى أهل مكة، {تخافون أن يتخطفكم الناس} يعنى كفار مكة، نزلت هذه الآية بعد قتال بدر، يقول: {فئاواكم} إلى المدينة والأنصار، {وأيدكم بنصره}، يعنى وقواكم بنصره يوم بدر، {ورزقكم من الطيبات}، يعنى الحلال من الرزق وغنيمة بدر، {لعلكم} يعني لكي، {تشكرون} تشكرون ربكم في هذه النعم التي ذكرها في هذه الآية...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا تذكير من الله عزّ وجلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناصحة. يقول: أطيعوا الله ورسوله أيها المؤمنون، واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم ولا تخالفوا أمره، وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدّة، فإن الله يهوّنه عليكم بطاعتكم إياه ويعجل لكم منه ما تحبون، كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليل يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا جميعكم "فآوَاكُمْ "يقول: فجعل لكم مأوى تأوون إليه منهم. "وأيّدَكُمْ بِنَصْرِهِ" يقول: وقوّاكم بنصره عليهم، حتى قتلتم منهم من قتلتم ببدر. "وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطّيّباتِ" يقول: وأطعمكم غنيمتهم حلالاً طيبا. "لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ" يقول: لكي تشكروا على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم.
واختلف أهل التأويل في الناس الذين عنوا بقوله: "أنْ يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ"؛ فقال بعضهم: كفار قريش... يعني بمكة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة...
وقال آخرون: بل عُني به غيرُ قريش؛ فارس، والروم...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عُني بذلك مشركو قريش لأن المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم، لأنهم كانوا أدنى الكفار منهم إليهم، وأشدّهم عليهم يومئذٍ مع كثرة عددهم وقلة عدد المسلمين.
وأما قوله: "فَآوَاكُمْ" فإنه يعني: آواكم المدينة، وكذلك قوله: "وأيّدَكُمْ بِنَصْرِهِ" بالأنصار.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الذكر: ضد السهو، وهو إحضار المعنى للنفس. وإنما أمروا بالتعرض له، لأن إحضار المعنى بقلوبهم ليس من فعلهم. وقوله "إذ أنتم قليل "فالقلة: النقصان عن المقدار في العدد، وكان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) قليلين في الأصل فلطف الله لهم حتى كثروا وعزوا، وقل اعداؤهم وذلوا وكانوا مستضعفين فقووا... فامتن الله عليهم بذلك وبين انهم كانوا قليين فكثرهم وكانوا مستضعفين فقواهم بلطفه.
وقوله: "تخافون أن يتخطفكم الناس" فالتخطف: الأخذ بسرعة انتزاع... فبين أنهم كانوا خائفين من أن ينال منهم العدو. وقوله "فآواكم" أي جعل لكم مأوى حريزا ترجعون إليه وتسكنون فيه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يُذَكرهم ما كانوا فيه من القِلَّة والذِّلة... ثم ما نَقَلَهم إليه من الإِمْكان والبَسْطَة ووجوه الأمان والحيطة، وقَرَّبهم إلى إقامة الشكر على جزيل تلك القِسَم، وإدامة الحمد على جميل تلك النِّعم، فمهَّد لهم في ظل أبوابه مقيلاً، ولم يجعل للعدوِّ إليهم -بيُمْنِ رعايته- سبيلاً. قوله جلّ ذكره: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. رَزَقَ الأشباحَ والظواهرَ من طيبات الغذاء، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء. وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها بالاستغراق في شهود المُنْعم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل} الآية، هذه آية تتضمن تعديد نعم الله على المؤمنين، و {إذ} ظرف لمعمول {واذكروا}، تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل، ولا يجوز أن تكون {إذ} ظرفاً للذكر وإنما يعمل الذكر في {إذ} لو قدرناها مفعولة، واختلف الناس في الحال المشار إليها بهذه الآية، فقالت فرقة هي الأكثر: هي حال مكة في وقت بدأة الإسلام، والناس الذين يخاف «تخطفهم» كفار مكة، و «المأوى» على هذا التأويل المدينة والأنصار، و «التأييد بالنصر» وقعة بدر وما أنجز معها في وقتها، و {الطيبات} الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالت فرقة: الحال المشار إليها هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر، والناس الذي يخاف تخطفهم على هذا عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوف من بعضهم، والمأوى على هذا والتأييد بالنصر هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو، و {الطيبات} الغنيمة.
وهذان قولان يناسبان وقت نزول الآية لأنها نزلت عقب بدر..
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول، ثم أمرهم باتقاء المعصية، أكد ذلك التكليف بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى بين أنهم كانوا قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية القلة والذلة، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة، وذلك يوجب عليهم الطاعة وترك المخالفة. أما بيان الأحوال التي كانوا عليها قبل ظهور محمد فمن وجوه:
أولها: أنهم كانوا قليلين في العدد.
وثانيها: أنهم كانوا مستضعفين، والمراد أن غيرهم يستضعفهم، والمراد من هذا الاستضعاف أنهم كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس.
والمعنى: أنهم كانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أن يتخطفهم العرب، لأنهم كانوا يخافون من مشركي العرب لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم.
ثم بين تعالى أنهم بعد أن كانوا كذلك قلبت تلك الأحوال بالسعادات والخيرات؛ فأولها: أنه آواهم والمراد منه أنه تعالى نقلهم إلى المدينة، فصاروا آمنين من شر الكفار.
وثانيها: قوله: {وأيدكم بنصره} والمراد منه وجوه النصر في يوم بدر.
وثالثها: قوله: {ورزقكم من الطيبات} وهو أنه تعالى أحل لهم الغنائم بعد أن كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة.
ثم قال: {لعلكم تشكرون} أي نقلناكم من الشدة إلى الرخاء، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء، حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة، فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة والمخاصمة بسبب الأنفال؟...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من أشد العقاب الإذلال، حذرهموه بالتذكير بما كانوا فيه من الذل، لأنه أبعث على الشكر وأزجر عن الكفر فقال: {واذكروا} وذكر المفعول به فقال: {إذ أنتم} أي في أوائل الإسلام {قليل} أي عددكم. ولما كان وجود مطلق الاستضعاف دالاً على غاية الضعف بنى للمفعول قوله: {مستضعفون} أي لا منفذ عندكم {في الأرض} أطلقها والمراد مكة، لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، ولأن حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك، ولذلك عبر بالناس في قوله: {تخافون} أي في حال اجتماعكم فكيف عند الانفراد {أن يتخطفكم} أي على سبيل التدريج {الناس} أي كما تتخطف الجوارح الصيود، فحذرهم سبحانه -بالتنبيه على أنه قادر على أن يعيدهم إلى ما كانوا عليه- من هذه الأحوال بالمخالفة بين كلمتهم وترك التسبب إلى اجتماعها بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أنهم لما كانوا في تلك الحالة التي هي في غاية الضعف، وكانت كلمتهم مجتمعة على أمر الله الذي هو توحيده وطاعة رسوله، أعقبهم الإيواء في دار منيعة، قد أيدهم بالنصر وأحسن رزقهم، وذلك معنى قوله تعالى مسبباً عما قبله: {فآواكم} أي في دار الهجرة رحمة لكم {وأيدكم بنصره} أي بأهلها مع الملائكة {ورزقكم من الطيبات} أي الغنائم الكاملة الطيبة بالإحلال وعدم المنازع التي لم تحل لأحد قبلكم وغيرها {لعلكم تشكرون} أي ليكون حالكم حال من يرجى شكره، فيكون بعيداً عن المنازعه في الأنفال، وذلك إشارة إلى أنهم مهما استمروا على تلك الحالة، كان -بإقبالهم على مثل ما أتاهم به وزادهم من فضله- أن جعلهم سادة في الدارين بما يهب لهم من الفرقان الآتي في الآية بعدها والتوفيق عند إتيانه، فالآية منصبة إلى الصحابة بالقصد الأول وهي صالحة للعرب كافة فتنصرف إليهم بالقصد الثاني...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... ومن العبرة في الآيات أنها حجج تاريخية اجتماعية على كون الإسلام إصلاحا أورث ويورث من اهتدى به سعادة الدنيا والسيادة والسلطان فيها قبل الآخرة، ولكن أعداءه الجاحدين لهذا على علم قد شوهوا تاريخه، وصدوا الناس عنه بالباطل- وأن أهله قد هجروا كتابه وتركوا هدايته وجهلوا تاريخه، ثم صاروا يقلدون أولئك الأعداء في الحكم عليه حتى زعموا أنه هو سبب جهلهم وضعفهم وزوال ملكهم الذي كان عقوبة من الله تعالى لخلفهم الطالح على تركه، بعد تلك العقوبة لسلفهم الصالح على الفتنة بالتنازع على ملكه. فإلى متى إلى متى أيها المسلمون؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال؛ فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة -التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة- بما كان من ضعفها وقلة عددها، وبما كان من الأذى الذي ينالها، والخوف الذي يظللها.. وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا.. فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله. ولا عن تكاليف هذه الحياة، التي أعزها بها الله، وأعطاها وحماها: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم، وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).. اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم؛ واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله.. اذكروا أيام الضعف والخوف، قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين، وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون.. ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين. يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله! ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف: (تخافون أن يتخطفكم الناس).. وهو مشهد التربص الوجِل، والترقب الفزع، حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة، والحركات المفزَّعة، والعيون الزائغة.. والأيدي تمتد للتخطف؛ والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس! ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم، في ظل الله الذي آواهم إلى حماه: (فآواكم، وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات).. وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا: (لعلكم تشكرون).. فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة، ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية. صوت الرسول الأمين الكريم.. ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه، وهذا المشهد وذلك معروضان عليه، ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه؟ على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك.. كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهم وحاضرهم.. ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق.. والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس؛ قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين، ولا تذوقت المذاقين..
ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك. ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى: (إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس).. فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله؛ وأن تترقب في يقين وثقة، موعود الله للعصبة المسلمة، موعوده الذي حققه للعصبة الأولى، ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه، وتصبر على تكاليفه.. وأن تنتظر قوله تعالى: (فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق -لا مع ظواهر الواقع الخادع- ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عُطف على الأمر بالاستجابة لله فيما يدعوهم إليه، وعلى إعلامهم بأن الله لا تخفى عليه نياتُهم، وعلى التحذير من فتنة الخلاف على الرسول صلى الله عليه وسلم تذكيرُهم بنعمة الله عليهم بالعزة والنصر، بعد الضعف والقلة والخوف، ليذكروا كيف يسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها، حتى أوصلهم إلى مكافحة عدوهم وأن يتقيَ أعداؤُهم بأسَهم، فكيف لا يستجيبون لله فيما بعد ذلك، وهم قد كثروا وعزوا وانتصروا، فالخطاب للمؤمنين يومئذٍ، ومجيء هذه الخطابات بعد وصفهم بالذين آمنوا إيماء إلى أن الإيمان هو الذي ساقَ لهم هذه الخيرات كلها، وأنه سيكون هذا أثَرَه فيهم كلما احتفظوا عليه كُفُوه من قبلِ سُؤالهم، ومن قبل تسديد حالهم، فكيف لا يكونون بعد ترفّه حالهم أشد استجابة وأثبت قلوباً...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إنه لكي تشعر الجماعات والأفراد بنعمة الحاضر يجب أن تعرف الماضي، وأن تكون صورته حاضرة دائما في حاضرها، وكذلك إذا عرفت ما كان في ماضيها من خير أدركت ما عساه يكون حاضرها، ومن حكمة الله وسنته دائما أن يجعل الماضي نورا للحاضر، أو يكون فيه عبرة للمعتبر {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما أنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (11)} (الرعد). يذكر الله سبحانه وتعالى ما كان بالمؤمنين من ضعف ليذكروا ما هم فيه من قوة ونعمة، وليشكروه على ما أعطاهم وعلى ما آتاهم، فيقول: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ}...
. والمعنى: اذكروا في زمن العزة زمن الذلة، وصور الله سبحانه وتعالى الحال فقال: {إذ أنتم قليل} أي: عدد قليل فإن الإسلام إذا نشأ كان عدد المسلمين قليلا، وكان المشركون يستذلونهم، ويستضعفونهم ويؤذونهم، مرة بالسخرية والاستهزاء، ومرة بالضرب والأذى، ومرة بوضع الحجر المحمى على ظهورهم، حتى كانوا يضطرونهم إلى أن ينطقوا بكلمة الكفر، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولم يسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى، حتى إنه ليرمى عليه فرث الجزور وهو يصلي، ومع هذا الاستضعاف في الأرض غير مستقرين في أنفسهم وأموالهم فهم في خوف وفزع واضطراب؛ ولذا وصفهم الله تعالى بقوله: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} والتخطف معناه: سلبهم أو سلت أموالهم سريعا من غير تلبث، والتخطف هو موضع الخوف، ولا يكون معه استقرار أبدا، فلا يأمن التاجر، ولا العامل، ولا الزارع، لا على ماله، ولا على نفسه؛ ولذلك كانت منهم الهجرة إلى الحبشة، وقد بين الله نعمته بالإيواء والتأييد بالنصر، والرزق من الطيبات...
ونجد أن الخطاب للمؤمنين ليشكروه على ما أنعم من نعم نالوها بإيمانهم، واتجه بعض المفسرين إلى أن الآية نعمة الإسلام على العرب، بعد أن دخل الناس في الإسلام أفواجا، أفواجا، ولا يقصر الإيواء والنصر على ما كان بعد الهجرة مباشرة، بل يعم ما شمل العرب من خير عميم، وجاء ذلك في أقوال بعض التابعين،...
وبعد كل ما حدث من وقائع، يذكّر الحق عز وجل هنا صاحب الحال الأعلى بالماضي الأدنى، ليثبت له: أن الذي نقلك من أدنى حياة إلى أعلى حياة، موجود ولا يزال موجودا، ومادام قد شاءت قدرته أن ينقلك من الأدنى للأعلى، فقدرته سبحانه وتعالى – إن شاءت- نقلتك من الأعلى إلى الأدنى. فإذا كنت في حال أعلى؛ إياك أن تنسى أنك كنت في حال أدنى. وعليك أن تعترف بجميل عطاء الخالق المنعم المتفضل وتقول: إن ربي القوي العظيم هو الذي وهبني ورفع مكانتي ولم أفعل ذلك بمهارتي، وحتى إن كنت قد ارتقيت بمهارتك، فالمهارة عطاء منه سبحانه وتعالى، لذلك يقول المولى عز وجل: {واذكروا إذا أنتم قليل مستضعفون في الأرض}، أي اجعلوا هذا الأمر على بالكم دائما وإياكم أن تخافوا أية قوة مهما بلغت هذه القوة، ولكن أعدوا لكل قوة ما يناسبها من أسلوب المواجهة الكثير؛ لأنكم حملة دعوة، ومن يحمل الدعوة قد يعاني من المصائب والمتاعب والمشقات؛ ولكن يجب ألا يفت ذلك في عضدكم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ذلك كلّه، بالسير على هداه، والعمل على رضاه، والجهاد في سبيله، فإنّ ذلك هو التجسيد الحيّ للشكر العملي على نعم الله الوافرة وألطافه الرضيّة، ورحمته الواسعة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويأخذ القرآن الكريم مرّة أُخرى بأيدي المسلمين ليعيدهم نحو تاريخهم، فكم كانوا في بداية الأمر ضعفاء وكيف صاروا لعلهم يدركون الدرس البليغ الذي علّمهم إيّاه في الآيات السابقة فيقول: (واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أنّ يتخطفكم الناس).
وهذه عبارة لطيفة تشير إِلى الضعف وقلّة العدد التي كان عليها المسلمون في ذلك الزمن، وكأنّهم كانوا شيئاً صغيراً معلقاً في الهواء بحيث يمكن للأعداء أخذه متى أرادوا، وهي إشارة لحال المسلمين في مكّة قبل الهجرة قبال المشركين الأقوياء. أو إشارة لحال المسلمين في المدينة بعد الهجرة في مقابل القوى الكبرى كالفرس والروم: (فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).