قوله تعالى : { ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً } وقد ذكرنا عن أنس أن الصحابة قالوا لما نزل ليغفر لك الله : هنيئاً مريئاً فما يفعل بنا فنزل : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات } الآية .
{ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين ، أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول الجنات ، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات . { وَكَانَ ذَلِكَ } الجزاء المذكور للمؤمنين { عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } فهذا ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين .
وعن العلم والحكمة : ( أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) . ليحقق لهم ما قدره من فوز ونعيم :
( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، ويكفر عنهم سيئاتهم ، وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ) . .
وإذا كان هذا في حساب الله فوزا عظيما ، فهو فوز عظيم ! فوز عظيم في حقيقته ، وفوز عظيم في نفوس من ينالونه من عند الله مقدرا بتقديره ، موزونا بميزانه . . ولقد فرح المؤمنون يومها بما كتب الله لهم ؛ وكانوا قد تطلعوا بعدما سمعوا افتتاح السورة ، وعلموا منه ما أفاض الله على رسوله . تطلعوا إلى نصيبهم هم ، وسألوا عنه ، فلما سمعوا وعلموا فاضت نفوسهم بالرضى والفرح واليقين .
ثم قال تعالى : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } ، قد تقدم حديث أنس : قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، هذا لك فما لنا ؟ فأنزل الله : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبدا . { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : خطاياهم وذنوبهم ، فلا يعاقبهم عليها ، بل يعفو ويصفح ويغفر ، ويستر ويرحم ويشكر ، { وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } ، كقوله { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ آل عمرن : 185 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللّهِ فَوْزاً عَظِيماً } .
يقول تعالى ذكره : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، لتشكر ربك ، وتحمده على ذلك ، فيغفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ، وليحمد ربهم المؤمنون بالله ، ويشكروه على إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من الفتح الذي فتحه ، وقضاه بينهم وبين أعدائهم من المشركين ، بإظهاره إياهم عليهم ، فيدخلهم بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ، ماكثين فيها إلى غير نهاية وليكفر عنهم سيىء أعمالهم بالحسنات التي يعملونها شكرا منهم لربهم على ما قضى لهم ، وأنعم عليهم به وكانَ ذلكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزا عَظِيما يقول تعالى ذكره : وكان ما وعدهم الله به من هذه العدة ، وذلك إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، وتكفيره سيئاتهم بحسنات أعمالهم التي يعملونها عند الله لهم فَوْزا عَظِيما يقول : ظفرا منهم بما كانوا تأمّلوه ويسعون له ، ونجاة مما كانوا يحذرونه من عذاب الله عظيما . وقد تقدّم ذكر الرواية أن هذه الآية نزلت لما قال المؤمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو تلا عليهم قول الله عزّ وجلّ إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ هذا لك يا رسول الله ، فماذا لنا ؟ تبيينا من الله لهم ما هو فاعل بهم .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : لِيُدخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ . . . إلى قوله : وَيُكَفّرَ عَنُهُمْ سَيّئاتِهِمْ فأعلم الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام .
وقوله : لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ على اللام من قوله : لِيَغْفَرِ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ بتأويل تكرير الكلام إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ، إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ، ولذلك لم تدخل الواو التي تدخل في الكلام للعطف ، فلم يقل : وليدخل المؤمنين .
{ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } علة بما بعده لما دل عليه قوله تعالى : { ولله جنود السموات والأرض } من معنى التدبير ، أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله فيه ويشكروها فيدخلهم الجنة ويعذب الكفار والمنافقين لما غاظهم من ذلك ، أو { فتحنا } أو { أنزل } أو جميع ما ذكر أو { ليزدادوا } ، وقيل أنه بدل منه بدل الاشتمال . { ويكفر عنهم سيئاتهم } يغطيها ولا يظهرها . { وكان ذلك } أي الإدخال والتكفير . { عند الله فوزا عظيما } لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر ، وعند حال من الفوز .
قوله تعالى : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } [ الفتح : 4 ] معناه : فازدادوا وتلقوا ذلك . فتمكن بعد ذلك قوله : { ليدخل المؤمنين } أي بتكسبهم القبول لما أنزل الله عليهم . ويروى في معنى هذه الآية أنه لما نزلت : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم }{[10401]} [ الأحقاف : 9 ] تكلم فيها أهل الكتاب وقالوا : كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به وبالناس معه ؟ فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] فلما سمعها المؤمنون ، قالوا : هنيئاً مريئاً ، هذا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فنزلت هذه الآية : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } إلى قوله : { وساءت مصيراً }{[10402]} فعرفه الله تعالى ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين . وذكر النقاش أن رجلاً من عك{[10403]} قال : هذه لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «هي لي ولأمتي كهاتين » وجمع بين أصبعيه .
وقوله : { ويكفر عنهم سيئاتهم } فيه ترتيب الجمل في السرد لا ترتيب وقوع معانيها ، لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة .