الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{لِّيُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِيمٗا} (5)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إنا فتحنا لك فتحا مبينا، لتشكر ربك، وتحمده على ذلك، فيغفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، وليحمد ربهم المؤمنون بالله، ويشكروه على إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من الفتح الذي فتحه، وقضاه بينهم وبين أعدائهم من المشركين، بإظهاره إياهم عليهم، فيدخلهم بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها إلى غير نهاية وليكفر عنهم سيئ أعمالهم بالحسنات التي يعملونها شكرا منهم لربهم على ما قضى لهم، وأنعم عليهم به." وكانَ ذلكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزا عَظِيما "يقول تعالى ذكره: وكان ما وعدهم الله به من هذه العدة، وذلك إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وتكفيره سيئاتهم بحسنات أعمالهم التي يعملونها عند الله لهم "فَوْزا عَظِيما" يقول: ظفرا منهم بما كانوا تأمّلوه ويسعون له، ونجاة مما كانوا يحذرونه من عذاب الله عظيما. وقد تقدّم ذكر الرواية أن هذه الآية نزلت لما قال المؤمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تلا عليهم قول الله عزّ وجلّ "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ" هذا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ تبيينا من الله لهم ما هو فاعل بهم...

وقوله: "لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ" على اللام من قوله: "لِيَغْفَرِ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ" بتأويل تكرير الكلام "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ"، إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار، ولذلك لم تدخل الواو التي تدخل في الكلام للعطف، فلم يقل: وليدخل المؤمنين...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...

...

...

...

...

...

...

....

قال هاهنا وفي بعض المواضع {المؤمنين والمؤمنات} وفي بعض المواضع اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كما في قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} وقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} فما الحكمة فيه؟

نقول: في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالجزاء الموعود به مع كون المؤمنات يشتركن معهم ذكرهن الله صريحا، وفي المواضع التي ليس فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين فقوله {وبشر المؤمنين} مع أنه علم من قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} العموم لا يوهم خروج المؤمنات عن البشارة، وأما هاهنا فلما كان قوله تعالى: {ليدخل المؤمنين} لفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه أو النصر للمؤمنين أو الفتح بأيديهم على ما كان يتوهم لأن إدخال المؤمنين كان للقتال، والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنة الموعود بها صرح الله بذكرهن، وكذلك في المنافقات والمشركات، والمنافقة والمشركة لم تقاتل فلا تعذب فصرح الله تعالى بذكرهن، وكذلك في قوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} لأن الموضع موضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله {ولا تبرجن... وأقمن... وءاتين... وأطعن} وقوله {واذكرن ما يتلى في بيوتكن} فكان ذكرهن هناك أصلا، لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأجر العظيم ذكرهم وذكرهن بلفظ مفرد من غير تبعية لما بينا أن الأصل ذكرهن في ذلك الموضع.

المسألة الخامسة: قال الله تعالى: {ويكفر عنهم سيئاتهم} بعد ذكر الإدخال مع أن تكفير السيئات قبل الإدخال؟

نقول الجواب عنه من وجهين:

(أحدهما) الواو لا تقتضي الترتيب

(الثاني) تكفر السيئات والمغفرة وغيرهما من توابع كون المكلف من أهل الجنة، فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة

(الثالث) وهو أن التكفير يكون بإلباس خلع الكرامة وهي في الجنة، وكان الإنسان في الجنة تزال عنه قبائح البشرية الجرمية كالفضلات، والمعنوية كالغضب والشهوة وهو التكفير وتثبت فيه الصفات الملكية وهي أشرف أنواع الخلع...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ليدخل} أي بما أوقع في السكينة {المؤمنين والمؤمنات} الذين جبلهم جبلة خير بجهاد بعضهم ودخول بعضهم في الدين بجهاد المجاهدين، ولو سلط على الكفار جنوده من أول الأمر فأهلكوهم أو دمر عليهم بغير واسطة لفات دخول أكثرهم الجنة، وهم من آمن منهم بعد صلح الحديبية {جنات} أي بساتين لا يصل إلى عقولكم من وصفها إلا ما تعرفونه بعقولكم وإن كان الأمر أعظم من ذلك {تجري} ودل وقرب وبعض بقوله: {من تحتها الأنهار} فأي موضع أردت أن تجري منه نهراً قدرت على ذلك، لأن الماء قريب من وجه الأرض مع صلابتها وحسنها. ولما كان الماء لا يطيب إلا بالقرار، قال تعالى: {خالدين فيها} أي لا إلى آخر. ولما كان السامع لهذا ربما ظن أن فعله ذلك باستحقاق، قال إشارة إلى أنه لا سبب إلا رحمته: {ويكفر} أي يستر ستراً بليغاً شاملاً {عنهم سيئاتهم} التي ليس من الحكمة دخول الجنة دار القدس قبل تكفيرها، بسبب ما كانوا متلبسين به منها من الكفر وغيره، فكان ذلك التكفير سبباً لدخولهم الجنة {وكان ذلك} أي الأمر العظيم من الإدخال والتكفير المهيئ له، وقدم الظرف تعظيماً لها فقال تعالى: {عند الله} أي الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام {فوزاً عظيماً *} يملأ جميع الجهات.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين، أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول الجنات، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والإشارة في قوله {وكان ذلك} إلى المذكور من إدخال الله إياهم الجنة. والمراد بإدخالهم الجنة إدخال خاص وهو إدخالهم منازل المجاهدين وليس هو الإدخال الذي استحقوه بالإيمان وصالح الأعمال الأخرى. ولذلك عطف عليه {ويكفر عنهم سيئاتهم}. والفوز: مصدر، وهو الظفر بالخير والنجاح. و {عند الله} متعلّق ب {فوزاً}، أي فازوا عند الله بمعنى: لقوا النجاح والظفر في معاملة الله لهم بالكرامة وتقديمه على متعلقه للاهتمام بهذه المعاملة ذات الكرامة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وبهذا فإنّ الله قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيّه في فتحه المبين من المواهب الأربعة موهبتين عُظُمَييْن هما «الجنّة خالدين فيها» و«التكفيرُ عن سيّئاتهم» بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم، ومجموع هذه المواهب الثلاث يعدّ فوزاً عظيماً لأولئك الذين خرجوا من الامتحان بنجاح وسلامة!...وكلمة «الفوز» التي توصف في القرآن غالباً ب «العظيم» وأحياناً توصف ب«المبين» أو «الكبير» بناءً على ما يقول «الراغب» في «مفرداته» معناها الانتصار ونيل الخيرات المقرون بالسلامة، وذلك في صورة ما لو كان فيه النجاة في الآخرة وإن اقترن مع زوال بعض المواهب الدنيوية.