قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } . سبب نزول هذه الآية أن أبا مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وقال مقاتل : هو أبو مرثد الغنوزي ، وقال عطاء : أبو مرثد كناز بن الحصين وكان شجاعا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سراً ، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق ، وكانت خليلته في الجاهلية ، فأتته وقالت : يا أبا مرثد ألا تخلو ؟ فقال لها : ويحك يا عناق ، إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك ، قالت : فهل لك أن تتزوج بي ؟ قال نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره ، فقالت أبي تتبرم ؟ ثم استغاثت عليه فضربوه ضرباً شديداً ، ثم خلوا سبيله ، فلما قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بالذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها وقال : يا رسول الله أيحل لي أن أتزوجها ؟ فأنزل الله تعالى ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) . وقيل : الآية منسوخة في حق الكتابيات بقوله تعالى ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) وبخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبإجماع الأمة .
روى الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " .
فإن قيل : كيف أطلقتم اسم الشرك على من لا ينكر إلا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبو الحسن بن فارس : لأن من يقول القرآن كلام غير الله فقد أشرك مع الله وغيره ، وقال قتادة و سعيد بن جبير : أراد بالمشركات الوثنيات ، فإن عثمان تزوج نائلة بنت فرافصة ، وكانت نصرانية فأسلمت تحته ، وتزوج طلحة ابن عبيد الله نصرانية ، وتزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر رضي الله عنه : اخل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تتعافوا المؤمنات منهن .
قوله تعالى : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } . بجمالها ومالها ، نزلت في خنساء وليدة سوداء ، كانت لحذيفة بن اليمان قال حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى ، على سوادك ودمامتك فأعتقها وتزوجها ، وقال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء فغضب عليها ولطمها ثم خرج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال له صلى الله عليه وسلم : " وما هي يا عبد الله ؟ قال : هي تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وتصوم رمضان ، وتحسن الوضوء وتصلي فقال : " هذه مؤمنة " قال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق نبياً لأعتقنها ولأتزوجنها . ففعل ذلك فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : أتنكح أمة ؟ وعرضوا عليه حرة مشركة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } . هذا إجماع : لا يجوز للمسلمة أن تنكح المشرك .
قوله تعالى : { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ، أولئك } . يعني المشركين .
قوله تعالى : { يدعون إلى النار } . أي إلى الأعمال الموجبة للنار .
قوله تعالى : { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه } . أي بقضائه وقدره وإرادته .
{ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
أي : { وَلَا تَنْكِحُوا } النساء { الْمُشْرِكَاتِ } ما دمن على شركهن { حَتَّى يُؤْمِنَّ } لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة ، ولو بلغت من الحسن ما بلغت ، وهذه عامة في جميع النساء المشركات ، وخصصتها آية المائدة ، في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }
{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وهذا عام لا تخصيص فيه .
ثم ذكر تعالى ، الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة ، لمن خالفهما في الدين فقال : { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي : في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم ، فمخالطتهم على خطر منهم ، والخطر ليس من الأخطار الدنيوية ، إنما هو الشقاء الأبدي .
ويستفاد من تعليل الآية ، النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع ، لأنه إذا لم يجز التزوج مع{[139]} أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى ، وخصوصا ، الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم ، كالخدمة ونحوها .
وفي قوله : { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } دليل على اعتبار الولي [ في النكاح ] .
{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } أي : يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة ، التي من آثارها ، دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة ، والتوبة النصوح ، والعلم النافع ، والعمل الصالح .
{ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ } أي : أحكامه وحكمها { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه ، وعلم ما جهلوه ، والامتثال لما ضيعوه .
والأن نواجه النصوص القرآنية بالتفصيل :
( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ؛ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا . ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم . أولئك يدعون إلى النار . والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ؛ ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . .
النكاح - وهو الزواج - أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان ؛ وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان . فلا بد إذن من توحد القلوب ، والتقائها في عقدة لا تحل . ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه ، وما تتجه إليه . والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس ، ويؤثر فيها ، ويكيف مشاعرها ، ويحدد تأثراتها واستجاباتها ، ويعين طريقها في الحياة كلها . وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها . فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية ، أو بعض المذاهب الاجتماعية . وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية ، ومقوماتها الحقيقية . وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها .
ولقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم ، كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين . لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة . فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة ، وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية . بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه ، ونزلت هذه الآية . نزلت تحرم إنشاءأي نكاح جديد بين المسلمين والمشركين - فأما ما كان قائما بالفعل من الزيجات فقد ظل إلى السنة السادسة للهجرة حين نزلت في الحديبية آية سورة الممتحنة : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن . الله أعلم بإيمانهن . فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار . لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن . . ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر . . . ) . . . فانتهت آخر الارتباطات بين هؤلاء وهؤلاء .
لقد بات حراما أن ينكح المسلم مشركة ، وأن ينكح المشرك مسلمة . حرام أن يربط الزواج بين قلبين لا يجتمعان على عقيدة . إنه في هذه الحالة رباط زائف واه ضعيف . إنهما لا يلتقيان في الله ، ولا تقوم على منهجه عقدة الحياة . والله الذي كرم الإنسان ورفعه على الحيوان يريد لهذه الصلة ألا تكون ميلا حيوانيا ، ولا اندفاعا شهوانيا . إنما يريد أن يرفعها حتى يصلها بالله في علاه ؛ ويربط بينها وبين مشيئته ومنهجه في نمو الحياة وطهارة الحياة .
ومن هنا جاء ذلك النص الحاسم الجازم :
( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) . .
فإذا أمن فقد زالت العقبة الفاصلة ؛ وقد التقى القلبان في الله ؛ وسلمت الآصرة الإنسانية بين الاثنين مما كان يعوقها ويفسدها . سلمت تلك الآصرة ، وقويت بتلك العقدة الجديدة : عقدة العقيدة .
( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) . .
فهذا الإعجاب المستمد من الغريزة وحدها ، لا تشترك فيه مشاعر الإنسان العليا ، ولا يرتفع عن حكم الجوارح والحواس . وجمال القلب أعمق وأغلى ، حتى لو كانت المسلمة أمة غير حرة . فإن نسبها إلى الإسلام يرفعها عن المشركة ذات الحسب . إنه نسب في الله وهو أعلى الأنساب .
( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا . ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) . .
القضية نفسها تتكرر في الصورة الأخرى ، توكيدا لها وتدقيقا في بيانها والعلة في الأولى هي العلة في الثانية :
( أولئك يدعون إلى النار ، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه . ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . .
إن الطريقين مختلفان ، والدعوتين مختلفتان ، فكيف يلتقي الفريقان في وحدة تقوم عليها الحياة ؟
إن طريق المشركين والمشركات إلى النار ، ودعوتهم إلى النار . وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله . والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه . . فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله !
ولكن أويدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار ؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار ؟ !
ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق ! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار ، بما أن مآلها إلى النار . والله يحذر من هذه الدعوة المردية ( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . . فمن لم يتذكر ، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم !
هنا نتذكر أن الله لم يحرم زواج المسلم من كتابية - مع اختلاف العقيدة - ولكن الأمر هنا يختلف . إن المسلم والكتابية يلتقيان في أصل العقيدة في الله . وإن اختلفت التفصيلات التشريعية . .
وهناك خلاف فقهي في حالة الكتابية التي تعتقد أن الله ثالث ثلاثة ، أو أن الله هو المسيح بن مريم ، أو أن العزيز ابن الله . . أهي مشركة محرمة . أم تعتبر من أهل الكتاب وتدخل في النص الذي في المائدة : ( اليوم أحل لكم الطيبات ) . . . ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) . . والجمهور على أنها تدخل في هذا النص . . ولكني أميل إلى اعتبار الرأي القائل بالتحريم في هذه الحالة . وقد رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال ابن عمر : " لا أعلم شركا أعظم من أن تقول ربها عيسى " . .
فأما الأمر في زواج الكتابي من مسلمة فهو محظور ؛ لأنه يختلف في واقعه عن زواج المسلم بكتابية - غير مشركة - ومن هنا يختلف في حكمه . . إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية . كما أن الزوجة هي التي تتنقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع . فإذا تزوج المسلم من الكتابية [ غير المشركة ] انتقلت هي إلى قومه ، ودعي أبناؤه منها باسمه ، فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو المحصن . ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي ، فتعيش بعيدا عن قومها ، وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها ، كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها ، ويدينون بدين غير دينها . والإسلام يجب أن يهيمن دائما .
على أن هناك اعتبارات عملية قد تجعل المباح من زواج المسلم بكتابية مكروها . وهذا ما رآه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمام بعض الاعتبارات :
قال ابن كثير في التفسير : " قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله - بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات - وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني " . .
وروي أن حذيفة تزوج يهودية فكتب إليه عمر : خل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاظلوا المؤمنات منهن . وفي رواية أخرى أنه قال : المسلم يتزوج النصرانية . والمسلمة ؟
ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم . . فالذي لا يمكن إنكاره واقعيا أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها ، وتخرج جيلا أبعد ما يكون عن الإسلام . وبخاصة في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ، والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزا في حقيقة الأمر . والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير زوجة تجيء من هناك !
هذا تحريم من الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان . ثم إن كان عمومُها مرادًا ، وأنَّه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خَص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ]{[3808]} } [ المائدة : 5 ] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب . وهكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والحسن ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، والربيع بن أنس ، وغيرهم .
وقيل : بل المراد بذلك المشركون{[3809]} من عبدة الأوثان ، ولم يُردْ أهل الكتاب بالكلية ، والمعنى قريب من الأول ، والله أعلم .
فأما ما رواه ابن جرير : حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام الفزاري ، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرّم كل ذات دين غير الإسلام ، قال الله عز وجل : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] . وقد نكح طلحة بن عُبَيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ، فغضب عمر بن الخطاب غضبًا شديدًا ، حتى هَمَّ أن يسطو عليهما . فقالا نحن نطَلق يا أمير المؤمنين ، ولا تغضب ! فقال : لئن حَلّ طلاقهن لقد حل نكاحهن ، ولكني أنتزعهن منكم صَغَرَة قَمأة{[3810]} - فهو حديث غريب جدًا . وهذا الأثر عن عمر غريب أيضًا .
قال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات : وإنما كره عمر ذلك ، لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، كما حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الصلت بن بهرام ، عن شقيق قال : تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : خَل سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخَلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن{[3811]} .
وهذا إسناد صحيح ، وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل ، عن وَكِيع ، عن الصلت{[3812]} نحوه .
وقال ابن جرير : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا سفيان{[3813]} بن سعيد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب قال : قال [ لي ]{[3814]} عمر بن الخطاب : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة .
قال : وهذا أصح إسنادًا من الأول{[3815]} {[3816]} .
ثم قال : وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق الأزرق{[3817]} عن شريك ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " .
ثم قال : وهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به لإجماع الجميع من الأمة على صحة القول{[3818]} به{[3819]} .
كذا قال ابن جرير ، رحمه الله .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وَكِيع ، عن جعفر بن بُرْقان ، عن ميمون بن مِهْران ، عن ابن عمر : أنه كره نكاح أهل الكتاب ، وتأول{[3820]} { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }
وقال البخاري : وقال ابن عمر : لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول : ربها{[3821]} عيسى{[3822]} .
وقال أبو بكر الخلال الحنبلي : حدثنا محمد بن هارون{[3823]} حدثنا إسحاق بن إبراهيم( ح ) وأخبرني محمد بن علي ، حدثنا صالح بن أحمد : أنهما سألا أبا عبد الله أحمد بن حنبل ، عن قول
الله : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال : مشركات العرب الذين يعبدون الأوثان{[3824]} .
وقوله : { وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } قال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء ، فغضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها . فقال له : " ما هي ؟ " قال : تصوم ، وتصلي ، وتحسن الوضوءَ ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فقال : " يا أبا عبد الله ، هذه مؤمنة " . فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقَنَّها ولأتزوجَنها{[3825]} . ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، وقالوا : نكح أمَة . وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله : { وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }
وقال عبد بن حميد : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكحوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن{[3826]} وانكحوهن على الدين ، فلأمة سوداء خَرْماء ذات دين أفضل " {[3827]} . والإفريقي ضعيف .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ولجمالها ، ولدينها ؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك " {[3828]} . ولمسلم عن جابر مثله{[3829]} . وله ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " {[3830]} .
وقوله : { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } أي : لا تُزَوّجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات ، كما قال تعالى : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] .
ثم قال تعالى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } أي : ولرجل مؤمن - ولو كان عبدًا حبشيًا - خير من مشرك ، وإن كان رئيسًا سَرِيًا{[3831]} { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي : معاشَرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة ، وعاقبة ذلك وخيمة { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } أي : بشرعه وما أمر به وما نهى عنه { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }