الحكم السادس : { ولا تنكحوا المشركات } أكثر المفسرين على أن هذه الآية ابتداء شرع وحكم آخر في بيان ما يحل ويحرم . وعن أبي مسلم : أنه متعلق بقصة اليتامى ترغيباً في مخالطتهنّ دون مخالطة المشركات . عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي - وكان حليفاً لبني هاشم - إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين ، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق . فأتته وقالت : ألا نخلو ؟ فقال : ويحك إن الإسلام حال بيننا . فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي ؟ قال : نعم . ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره فنزلت هذه الآية . ثم العلماء اختلفوا في الآية في موضعين : الأوّل في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي : إنه حقيقة في العقد لقوله صلى الله عليه وسلم " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ولا شك أن المتوقف على الولي والشاهد هو العقد لا الوطء . ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً " ولدت من نكاح لا من سفاح " ولقوله تعالى { وأنكحوا الأيامى } [ النور : 32 ] وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : إنه حقيقة في الوطء لقوله تعالى { حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] والنكاح الذي ينتهي إليه الحرمة ليس هو العقد بل هو الوطء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " وقال صلى الله عليه وسلم " ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون " ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم . يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينيه . والضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال اللفظ فيهما جميعاً . قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم " نكح المرأة " فقال : فرقت العرب بالاستعمال فرقاً لطيفاً . فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه تزوّجها وعقد عليها . وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته . لم يريدوا غير المجامعة . إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد أي لا تعقدوا على المشركات .
الثاني لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب أم لا ؟ قال الأكثرون : نعم لقوله تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله سبحانه
{ عما يشركون } [ التوبة : 31 ] ولقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] فلو كان كفر اليهود والنصارى غير الشرك لاحتمل أن يغفر الله لهم وذلك باطل بالاتفاق . وأيضاً النصارى قائلون بالتثليث وليس ذلك في الصفات ، فإن أكثر المسلمين أيضاً يثبتون لله تعالى صفات قديمة ، فإذن هو في الذات وهذا شرك محض . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أميراً وقال : " إذا لقيت عدوّاً من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم " . سمى من يقبل الجزية وعقد الذمة بالمشرك . وقال أبو بكر الأصم : كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن حدّ البشر ، وهم أنكروها وأضافوها إلى الجن والشياطين ، فقد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر . واعترض عليه بأن اليهودي حيث لا يسلم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما لا يقدر العباد عليه ، لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب إضافة ذلك إلى غير الله . والجواب أنه لا اعتبار بإقراره ، وإنما الاعتبار بالدليل ، فإذا ثبت بالدليل أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن أضاف ذلك إلى غير الله كان مشركاً كما لو أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب . احتج المخالف بأنه تعالى فصل بين أهل الكتاب والمشركين في الذكر حيث قال { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين }
[ البقرة : 105 ] { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] والعطف يقتضي التغاير . وأجيب بأن كفر الوثني أغلظ وهذا القدر يكفي في العطف ، أو لعله خص أوّلاً ثم عمم . هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل { فلا تجعلوا لله أنداداً }
[ البقرة : 22 ] أن أكثر عبدة الأوثان مقرون بأن إله العالم واحد ، وأنه ليس له في الإلاهية بمعنى خلق العالم وتدبيره شريك ونظير ، فظهر أن وقوع اسم المشرك عليهم ليس بحسب اللغة بل بالشرع كالصلاة والزكاة . وإذا كان كذلك فلا يبعد بل يجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم ، لاسيما وقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسم كل من كان كافراً بأنه مشرك .
التفريع إن قيل : المشركات تشمل الحربيات والكتابيات جميعاً فالآية منسوخة أو مخصصة بقوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] لأن سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ شيء منها قط وهو قول ابن عباس والأوزاعي . لا يقال : لعل المراد من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب لأن قوله { والمحصنات من المؤمنات } [ المائدة : 5 ] يشمل من آمن منهنّ فيبقى قوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] ضائعاً ولإجماع الصحابة على جواز نكاح الكتابيات نقل أن حذيفة تزوّج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟ فقال : لا ، ولكني أخاف . وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا " وعن عبد الرحمان بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الاستثناء خالياً عن الفائدة . وإن قيل : إن المشركات تختص بالحربيات ، فالآية ثابتة وباقية على عمومها . ومن الناس من زعم أن هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التزوج بالمشركات . روي هذا عن الحسن وزيف بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ لأن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا حكمين شرعيين إلا أن يقال : إن تجويز نكاح المشركة قبل نزول الآية كان ثابتاً من قبل الشرع . قوله { حتى يؤمنّ } اتفق الكل على أن المراد منه الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام ، ولكن لا يدل هذا على أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار فقط لما مر في تفسير قوله
{ الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] أنه لابد في الإيمان الحقيقي من التصديق القلبي ، إلا أنه اكتفي ههنا بالإقرار اللساني لأنه هو أمارة الإيمان بالنسبة إلينا ، فلا اطلاع لنا على صميم القلب ، والسرير موكولة إلى علام الخفيات . فإن وافق سره العلن كان مؤمناً حقاً وإلا كان منافقاً جداً { ولأمة مؤمنة } هذه اللام في إفادة التوكيد تشبه لام القسم . والمراد بالأمة وكذا بالعبد في قوله { ولعبد مؤمن } أمة الله وعبده لأن الناس كلهم عبيداً لله وإماؤه أي ولا مرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة { خير من مشركة ولو أعجبتكم } للمبالغة والجواب محذوف أي ولو كانت المشركة تعجبكم بمالها وجمالها ونسبها ، فالمؤمنة خير منها لأن الإيمان يتعلق بالدين والمال ، والجمال والنسب يتعلق بالدنيا ، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يتيسر الجمع بينهما . وقد تحصل المحبة والتآلف عند التوافق في الدين فتكمل منافع الدنيا أيضاً من حسن الصحبة والعشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والأولاد ، وأما عند اختلاف الدين فتنعكس هذه القضايا . وقد يرى أضداد ما توقع منها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسنها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " وقد ظن بعضهم أن المراد بالأمة ضد الحرة فقال : التقدير : ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة . ولهذا ذهب بعض آخر إلى أن في الآية دلالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوّج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة ، لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجداً لطول الحرة المسلمة ، لأنه بسبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح ، فيلزم قطعاً أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } لا خلاف ههنا في أن المراد به الكل ، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر على اختلاف أقسام الكفر { أولئك } المشركات والمشركون { يدعون إلى النار } أي إلى ما يؤدي إليها ، فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة في الظاهر ، وقد تحمل المودة على الاتفاق في الدين فلعل المؤمن يوافق الكافر ، والاحتراز عن مظنة الارتداد أهم من الطموح إلى إسلام المشرك . فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال . وقيل : المراد أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والجهاد ، وفي ترك الجهاد استحقاق النار والعذاب .
وغرض هذا القائل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وغيرها ، فإن الذمية لا تحمل زوجها على ترك الجهاد . وقيل : إن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار . { والله يدعو إلى الجنة } حيث أمر بالتزوج بالمسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة ، أو المراد أن أولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة المغفرة وما يؤدي إليهما ، فهم الذين تحب موالاتهم و مصاهرتهم وأن يؤثروا على غيرهم { بإذنه } بتوفيق الله وتيسيره للعمل الذي يستحق به الجنة والغفران وقرى الحسن { والمغفرة } بالرفع على الابتداء أي المغفرة كائنة بتيسيره { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } معناه واضح . وقد عرفت فيما مر أن التذكر محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، فكان الآيات تليه على ما هو مركوز في العقول من حقيقة دين الإسلام { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم : 30 ] .