غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

219

الحكم السادس : { ولا تنكحوا المشركات } أكثر المفسرين على أن هذه الآية ابتداء شرع وحكم آخر في بيان ما يحل ويحرم . وعن أبي مسلم : أنه متعلق بقصة اليتامى ترغيباً في مخالطتهنّ دون مخالطة المشركات . عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي - وكان حليفاً لبني هاشم - إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين ، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق . فأتته وقالت : ألا نخلو ؟ فقال : ويحك إن الإسلام حال بيننا . فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي ؟ قال : نعم . ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره فنزلت هذه الآية . ثم العلماء اختلفوا في الآية في موضعين : الأوّل في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي : إنه حقيقة في العقد لقوله صلى الله عليه وسلم " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ولا شك أن المتوقف على الولي والشاهد هو العقد لا الوطء . ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً " ولدت من نكاح لا من سفاح " ولقوله تعالى { وأنكحوا الأيامى } [ النور : 32 ] وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : إنه حقيقة في الوطء لقوله تعالى { حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] والنكاح الذي ينتهي إليه الحرمة ليس هو العقد بل هو الوطء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " وقال صلى الله عليه وسلم " ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون " ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم . يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينيه . والضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال اللفظ فيهما جميعاً . قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم " نكح المرأة " فقال : فرقت العرب بالاستعمال فرقاً لطيفاً . فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه تزوّجها وعقد عليها . وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته . لم يريدوا غير المجامعة . إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد أي لا تعقدوا على المشركات .

الثاني لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب أم لا ؟ قال الأكثرون : نعم لقوله تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله سبحانه

{ عما يشركون } [ التوبة : 31 ] ولقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] فلو كان كفر اليهود والنصارى غير الشرك لاحتمل أن يغفر الله لهم وذلك باطل بالاتفاق . وأيضاً النصارى قائلون بالتثليث وليس ذلك في الصفات ، فإن أكثر المسلمين أيضاً يثبتون لله تعالى صفات قديمة ، فإذن هو في الذات وهذا شرك محض . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أميراً وقال : " إذا لقيت عدوّاً من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم " . سمى من يقبل الجزية وعقد الذمة بالمشرك . وقال أبو بكر الأصم : كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن حدّ البشر ، وهم أنكروها وأضافوها إلى الجن والشياطين ، فقد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر . واعترض عليه بأن اليهودي حيث لا يسلم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما لا يقدر العباد عليه ، لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب إضافة ذلك إلى غير الله . والجواب أنه لا اعتبار بإقراره ، وإنما الاعتبار بالدليل ، فإذا ثبت بالدليل أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن أضاف ذلك إلى غير الله كان مشركاً كما لو أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب . احتج المخالف بأنه تعالى فصل بين أهل الكتاب والمشركين في الذكر حيث قال { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين }

[ البقرة : 105 ] { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] والعطف يقتضي التغاير . وأجيب بأن كفر الوثني أغلظ وهذا القدر يكفي في العطف ، أو لعله خص أوّلاً ثم عمم . هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل { فلا تجعلوا لله أنداداً }

[ البقرة : 22 ] أن أكثر عبدة الأوثان مقرون بأن إله العالم واحد ، وأنه ليس له في الإلاهية بمعنى خلق العالم وتدبيره شريك ونظير ، فظهر أن وقوع اسم المشرك عليهم ليس بحسب اللغة بل بالشرع كالصلاة والزكاة . وإذا كان كذلك فلا يبعد بل يجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم ، لاسيما وقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسم كل من كان كافراً بأنه مشرك .

التفريع إن قيل : المشركات تشمل الحربيات والكتابيات جميعاً فالآية منسوخة أو مخصصة بقوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] لأن سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ شيء منها قط وهو قول ابن عباس والأوزاعي . لا يقال : لعل المراد من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب لأن قوله { والمحصنات من المؤمنات } [ المائدة : 5 ] يشمل من آمن منهنّ فيبقى قوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] ضائعاً ولإجماع الصحابة على جواز نكاح الكتابيات نقل أن حذيفة تزوّج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟ فقال : لا ، ولكني أخاف . وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا " وعن عبد الرحمان بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الاستثناء خالياً عن الفائدة . وإن قيل : إن المشركات تختص بالحربيات ، فالآية ثابتة وباقية على عمومها . ومن الناس من زعم أن هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التزوج بالمشركات . روي هذا عن الحسن وزيف بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ لأن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا حكمين شرعيين إلا أن يقال : إن تجويز نكاح المشركة قبل نزول الآية كان ثابتاً من قبل الشرع . قوله { حتى يؤمنّ } اتفق الكل على أن المراد منه الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام ، ولكن لا يدل هذا على أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار فقط لما مر في تفسير قوله

{ الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] أنه لابد في الإيمان الحقيقي من التصديق القلبي ، إلا أنه اكتفي ههنا بالإقرار اللساني لأنه هو أمارة الإيمان بالنسبة إلينا ، فلا اطلاع لنا على صميم القلب ، والسرير موكولة إلى علام الخفيات . فإن وافق سره العلن كان مؤمناً حقاً وإلا كان منافقاً جداً { ولأمة مؤمنة } هذه اللام في إفادة التوكيد تشبه لام القسم . والمراد بالأمة وكذا بالعبد في قوله { ولعبد مؤمن } أمة الله وعبده لأن الناس كلهم عبيداً لله وإماؤه أي ولا مرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة { خير من مشركة ولو أعجبتكم } للمبالغة والجواب محذوف أي ولو كانت المشركة تعجبكم بمالها وجمالها ونسبها ، فالمؤمنة خير منها لأن الإيمان يتعلق بالدين والمال ، والجمال والنسب يتعلق بالدنيا ، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يتيسر الجمع بينهما . وقد تحصل المحبة والتآلف عند التوافق في الدين فتكمل منافع الدنيا أيضاً من حسن الصحبة والعشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والأولاد ، وأما عند اختلاف الدين فتنعكس هذه القضايا . وقد يرى أضداد ما توقع منها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسنها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " وقد ظن بعضهم أن المراد بالأمة ضد الحرة فقال : التقدير : ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة . ولهذا ذهب بعض آخر إلى أن في الآية دلالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوّج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة ، لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجداً لطول الحرة المسلمة ، لأنه بسبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح ، فيلزم قطعاً أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } لا خلاف ههنا في أن المراد به الكل ، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر على اختلاف أقسام الكفر { أولئك } المشركات والمشركون { يدعون إلى النار } أي إلى ما يؤدي إليها ، فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة في الظاهر ، وقد تحمل المودة على الاتفاق في الدين فلعل المؤمن يوافق الكافر ، والاحتراز عن مظنة الارتداد أهم من الطموح إلى إسلام المشرك . فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال . وقيل : المراد أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والجهاد ، وفي ترك الجهاد استحقاق النار والعذاب .

وغرض هذا القائل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وغيرها ، فإن الذمية لا تحمل زوجها على ترك الجهاد . وقيل : إن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار . { والله يدعو إلى الجنة } حيث أمر بالتزوج بالمسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة ، أو المراد أن أولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة المغفرة وما يؤدي إليهما ، فهم الذين تحب موالاتهم و مصاهرتهم وأن يؤثروا على غيرهم { بإذنه } بتوفيق الله وتيسيره للعمل الذي يستحق به الجنة والغفران وقرى الحسن { والمغفرة } بالرفع على الابتداء أي المغفرة كائنة بتيسيره { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } معناه واضح . وقد عرفت فيما مر أن التذكر محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، فكان الآيات تليه على ما هو مركوز في العقول من حقيقة دين الإسلام { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم : 30 ] .

/خ221