فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

قوله : { وَلاَ تَنْكِحُوا } قرأه الجمهور بفتح التاء ، وقرئ في الشواذ بضمها ؛ قيل : والمعنى : كان المتزوج لها أنكحها من نفسها . وفي هذه الآية النهي عن نكاح المشركات ، فقيل : المراد بالمشركات : الوثنيات ، وقيل : إنها تعم الكتابيات ؛ لأن أهل الكتاب مشركون ، { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية ، فقالت طائفة : إن الله حرم نكاح المشركات فيها ، والكتابيات من الجملة ، ثم جاءت آية المائدة ، فخصصت الكتابيات من هذا العموم . وهذا محكي عن ابن عباس ، ومالك ، وسفيان بن سعيد ، وعبد الرحمن بن عمر ، والأوزاعي . وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة ، وأنه يحرم نكاح الكتابيات ، والمشركات ، وهذا أحد قولي الشافعي ، وبه قال جماعة من أهل العلم . ويجاب عن قولهم : أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أوّل ما نزل ، وسورة المائدة من آخر ما نزل . والقول الأوّل هو الراجح . وقد قال به مع من تقدم عثمان بن عفان ، وطلحة ، وجابر ، وحذيفة ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وطاوس ، وعكرمة ، والشعبي ، والضحاك كما حكاه النحاس ، والقرطبي . وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين ، وزاد عمر بن الخطاب وقال : لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك . وقال بعض أهل العلم : إن لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى : { ما يَوَدُّ الذين كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم منْ خَيْرٍ رَبكُمْ } [ البقرة : 105 ] . وقال : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] وعلى فرض أن لفظ المشركين يعمّ ، فهذا العموم مخصوص بآية المائدة كما قدمنا .

قوله : { وَلأمَةٌ مؤْمِنَةٌ } أي : ولرقيقة مؤمنة ، وقيل : المراد بالأمة : الحرة ؛ لأن الناس كلهم عبيد الله ، وإماؤه ، والأول أولى لما سيأتي ؛ لأنه الظاهر من اللفظ ؛ ولأنه أبلغ ، فإن تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرّة المشركة يستفاد منه تفضيل الحرّة المؤمنة على الحرّة المشركة بالأولى . وقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } أي : ولو أعجبتكم المشركة من جهة كونها ذات جمال ، أو مال ، أو شرف ، وهذه الجملة حالية . قوله : { وَلاَ تُنكِحُوا المشركين } أي : لا تزوجوهم بالمؤمنات { حتى يُؤْمِنُوا } قال القرطبي : وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه ؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام ، وأجمع القراء على ضم التاء من تنكحوا . وقوله : { وَلَعَبْدٌ } الكلام فيه كالكلام في قوله : { وَلأمَةٌ } والترجيح كالترجيح . قوله : { أولئك } إشارة إلى المشركين ، والمشركات { يَدْعُونَ إِلَى النار } أي : إلى الأعمال الموجبة للنار ، فكان في مصاهرتهم ، ومعاشرتهم ، ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له ، ويدخلوا فيه { والله يَدْعُو إلى الجنة } أي : إلى الأعمال الموجبة للجنة .

وقيل : المراد : أن أولياء الله هم : المؤمنون يدعون إلى الجنة . وقوله : { بِإِذْنِهِ } أي : بأمره ، قاله الزجاج ، وقيل : بتيسيره ، وتوفيقه ، قاله صاحب الكشاف .

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، عن مقاتل بن حيان قال : نزلت هذه الآية في أبي مَرْثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عَنَاقٍ أن يتزوجها ، وكانت ذات حظ من جمال ، وهي مشركة ، وأبو مرثد يومئذ مسلم ، فقال : يا رسول الله إنها تعجبني ، فأنزل الله : { وَلاَ تَنْكِحُوا المشركات } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَنْكِحُوا المشركات } قال : استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب ، فقال : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] . وقد روى هذا المعنى عنه من طرق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن سعيد بن جبير في قوله : { وَلاَ تَنْكِحُوا المشركات } يعني أهل الأوثان . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي عن مجاهد نحوه ، وكذلك أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن قتادة نحوه أيضاً . وأخرج عبد بن حميد ، عن النخعي نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر أنه كره نكاح نساء أهل الكتاب ، وتأوّل : { وَلاَ تَنْكِحُوا المشركات حتى يُؤْمِنَّ } . وأخرج البخاري عنه قال : حرّم الله نكاح المشركات على المسلمين ، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى ، أو عبد من عباد الله . وأخرج الواحدي ، وابن عساكر من طريق السدّي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلأمَةٌ مؤْمِنَةٌ خَيْرٌ من مشْرِكَةٍ } قال نزلت في عبد الله بن رواحة ، وكانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ، ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له : «ما هي يا عبد الله ؟ » قال : تصوم ، وتصلي ، وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال : «يا عبد الله هذه مؤمنة ، » فقال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق ، لأعتقنها ، ولأتزوجنها ، ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، وقالوا نكح أمَة ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله فيهم : { وَلأمَةٌ مؤْمِنَةٌ خَيْرٌ من مشْرِكَةٍ } وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن السدي مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل بن حيان في قوله : { وَلأمَةٌ مؤْمِنَةٌ } قال : بلغنا أنها كانت أمة لحذيفة سوداء ، فأعتقها وتزوجها حذيفة . وأخرج ابن جرير ، عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال : النكاح يولي في كتاب الله ، ثم قرأ : { وَلاَ تُنكِحُوا المشركين حتى يُؤْمِنُوا } .