تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

الآية 221 وقوله تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) اختلف [ أهل التأويل ]{[2487]} . في تأويل [ هذه ]{[2488]} الآية ؛ فقال قائلون : الحظر على كل مشرك ومشركة كتابيا أو غير كتابي ، ثم نسخ بقوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) بالمائدة : 5 ] ؛ فالإماء على الحظر لأنه إ نما استثنى الحرائر دون الإماء بقوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) .

وقال آخرون : هو على المشركات خاصة دون الكتابيات ، والكتابيات مستثنيات ، فدخلت كل كتابية : حرة كانت أو أمة [ تحت الاستثناء ]{[2489]} لأن الاستثناء إذا كان عن جملة الأديان سوى دين الكتابيات لم يحتمل دخول بعض أهل ذلك الدين دون بعض . والذي يدل عليه قوله : ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) فجعل الأمة المؤمنة خيرا بالنكاح من المشركة ، ومن قوله : أنه{[2490]} بالقدرة على طول الحرة الكافرة لا يباح له نكاح الأمة المؤمنة ، فبان أن موقع الآية ليس على التناسخ على ما يقوله : على [ أن ]{[2491]} الإماء يدخلن تحت قوله عز وجل : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 24 ] ؛ [ دليله ]{[2492]} قوله تعالى : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) [ النساء : 25 ] ، فثبت أنهن قد يتعففن ، فيستوجبن اسم الإحصان ، وقد جعل شرط الحل هو ذكر الإحصان ، وقوله أيضا : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) [ النور : 33 ] ، وقوله : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمناكم ) [ النساء : 24 ] مستثنيا{[2493]} الإماء من جملة المحصنات ، دل أنهم دخلن في الخطاب ، وقد أجمع على أنهن حل لنا بالسبي ، وكل مذكور في الكتاب يستوي الحل فيه إلا من جهة العدو ؛ فإذا أبيح لنا تزويج المسبيات منهن بالحرائر ثبت أنه محكوم بحكمهن في النكاح ، فبطل قول من أبطل نكاح الإماء ، إذ ثبت أن الآية بخلاف ما قال ، وبالله التوفيق .

ثم الآية تضمنت أحكاما :

أحدها{[2494]} : أن من قول أصحابنا ، رحمهم الله : إن المناهي بحق{[2495]} النهي ، لا توجب الحرمة .

والثاني : أن الآية كيف كان حملها على الخصوص في بعض أحق والعموم في بعض ، ومخرج الخطابين واحد .

والثالث : أن في الآية ذكر المنع لعلة ، وهو الدعوة إلى النار ، فكيف لم يلزم حفظ ما لأجله وجبت الحرمة على وجوده ؟ وهذا هو الأصل /35-ب/ أن يحفظ الأحكام بالعلل ، مادامت توجد العلل .

والرابع : البيان في تولي النكاح ، إذ للأولياء خرج الخطاب بقوله : ( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) .

وأما قولنا في النهي فإن النهي يوجب الانتهاء ، ولكن لا يوجب الحرمة إلا بدليل يقوم على مراد الحرمة في النهي ، لما رأينا من المناهي كثيرة لم توجب الحرمة . فلو كان نفس النهي موجبا ذلك لوجب أن يوجب في كل ذلك ، فلما لم يوجب ذلك دل أن نفسه ، لا يوجب الحرمة ، ولكن الدليل ، هو الموجب للحرمة .

وأما قولهم وسؤالهم عن الخصوص والعموم فذلك جائز عندنا : خروج الآية على العموم يعقل بها الخصوص ، وهو كثير في القرآن مما لا يحتاج إلى ذكره وشرحه ؛ ومن ذلك قوله : [ عز وجل ]{[2496]} : ( لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي ) [ المائدة : 12 ] عقل إيجاب تعظيم الرسل والأنبياء [ والإيمان لهم على العموم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة في حق البعض دون البعض ]{[2497]} ، وكذا قوله : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) [ التوبة : 120 ] فالتخلف غير موجود في بعض الأحايين{[2498]} ، وإن حق النهي عن الرغبة عن نفسه أخذ الجميع ، فعلى ذلك ههنا يجوز خروجه عاما يخص بالعقول .

وأما قولهم : وجوب الحكمة لعلة ، وهو الدعاء إلى النار فله وجهان :

أحدهما : أن الكتابي أقر بكتاب ، يقدر على إلزام الدين بالدعاء إليه ، ففيه رجاء الإسلام ، وغيرهم من أهل الشرك لا طمع بمثله .

والثاني : أن علة الحظر قوله : ( أولئك يدعون إلى النار ) والزوجات لا يدعون أزواجهن إلى ذلك ، بل الأزواج هم الأصل في الدعاء ، وهم الأمراء [ على ]{[2499]} الزوجات ، والزوجات بين الأتباع للأزواج والمذللات في أيديهم ، لذلك أبيح .

ثم الأصل بأن النكاح جعل لأمرين : إما لإبقاء النسل وإما للتحصن والتعفف عن السفاح ، قد ينكح من لا نسل فيه ، فما بقي إلا وجه المنع عن السفاح . ثم الدعاء إلى النار أعظم من السفاح ، بهذا لم يبح النكاح .

ثم الدلالة على تخصيصها وجهان :

أحدهما : قول{[2500]} الخصوم بالنسخ : إنه ورد على بعض دون بعض ، وما ذلك إلا الخصوص .

والثاني : أن ذكر ذلك في الكتابيات لم يجز بحيث إظهار ما يحل وما يحرم ، إذ شرط نكاحهن إما هو عند العجز عن الحرائر ، فجرى الذكر فيهن ، إذ هن الأصل في عقود النكاح ، وإن الإماء دخيلات في حق النكاح ، وإنما جرى الذكر في حلهن{[2501]} بملك اليمين . لذلك ترك ذكرهن مع ما يجوز دخول الإماء في قوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) [ المائدة : 5 ] لما{[2502]} أوجب لهن العفة والتحصن بقوله : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) [ النساء : 25 ] وبقوله : ( محصنات غير مسافحات ) [ النساء : 25 ] .

وأما قولهم : خاطب الأولياء [ في النهي بقوله : ( ولا تنكحوا المشركين ) ، وخاطب ]{[2503]} الأولياء أيضا في الأمر بالنكاح الأيامى بقوله : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) [ النور : 32 ] ، فدل أن [ شهادة ]{[2504]} الولي شرط في جواز النكاح .

فجوابنا أنه إنما خاطب الأولياء في النهي عن النكاح لما العرف في الأمة ألا يتولى النساء بأنفسهن ، بل الأولياء هم الذين يتولون عليهن النكاح برضاهن وأمرهن وتدبيرهن ، لذلك خرج الخطاب للأولياء مع ما ليس في تخصيص بالخطاب دليل إخراج النساء عن ولاية النكاح .

ألا ترى أنه ذكر في الآية الصلاح بقوله : ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) [ النور 32 ] ، لم يصر ذلك شرطا في الجواز ؟ فعلى ذلك الأول ، وهذا يدل أيضا على أن ليس في تخصيص المحصنات من الكتابيات حظر نكاح الإماء منهن . والثاني أن قوله : ( ولا تنكحوا المشركات ) ، يحتمل أن يكون في الصغار خاصة ؛ نهى الأولياء عن تزويج الصغار من المسلمين والمشركات من غير الكتابيات . فإذا كان محتملا ما ذكرنا لم يكن لمخالفنا الاحتجاج به علينا في إبطال نكاح المرأة نفسها دون وليها ، والله أعلم .

وقوله : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) اختلف في تأويله : قال قوم هو في غير الكائنات ؛ يبين ذلك قوله : ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات ) [ المائدة : 5 ] فنسق الكتابيات بالإحلال على ما تختلف أحوال الحل من أول الإسلام إلى الأبد ، ولا من قبل{[2505]} ذلك ، نحو الطيبات من الطعام من طعام المؤمنين وأهل الكتاب ، ونحو المحصنات من المؤمنات ، ومثله الكتابيات ؛ إذ يسبق نكاحهن على من ذكر . ولو كان التأويل هذا كانت الآية نطقت بألا تنكحوا المشركات غير الكتابيات ، فلا يكون في الآية تحريم الإماء من أهل الكتاب ولا النهي عن ذلك ، وإنما يعرف إن كان يجوز أو لا بدليل آخر سوى هذه الآية .

فإن قيل : على ذلك لم لا كانت آية الإحلال في التخصيص بذكر المحصنات دليلا على حرمة نكاح الإماء ؟ قيل : يكون الجواب لأوجه .

أحدها : أن ذكر الحل في حال لا يدل على الحرمة في غيرها ، كذلك الحل في صنف لا يدل على حرمة في غيره ، ولو كان ذا يدل لكان يجيء أن يكون حكم ما لا يرد فيه السمع مخالفا لما يرد فيه ، وذلك فاسدؤؤء ؛ إذ السمع هو دليل الحكم في ما لا سمع فيه بالمعنى الذي ضمن فيه ، والله أعلم . وأيد ذلك قوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) [ المائدة : 5 ] ، ثم هن يحللن ، وإن لم يؤتين أجورهن ، فمثله الأول .

والثاني : أنه مسوق على مثله في المؤمنات ، ثم لم يكن ذلك في المؤمنات على تحريم الإماء ، فمثله في الكتابيات . فإن قيل : لم بين في إماء المؤمنات ؟ قيل لهم : لم يزعم أحد أن ذلك على نسخ هذه الآية ، فثبت أنه ليس في الذكر في المحصنات تحريم الغير ، فكذلك في المنسوق على ذلك مع ما لو كان في مثل هذا لكان في قوله : ( ولا تنكحوا المشركات ) ، إذ وقع على غير الكتابيات دليل على الإحلال ، فيكون ذكر الحرمة في نوع دليل الحل في غيره{[2506]} على مثل ذكر الحل في نوع ، وفي ذلك تناقض الأدلة ، والله أعلم .

ووجه آخر : أن المحصنات يحتمل أن يريد به العفائف وأهل الصلاح ، والإماء قد يستحققن هذا الاسم كقوله : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن ) [ النساء : 25 ] وقوله : ( محصنات غير مسافحات ) [ النساء : 25 ] وقوله : ( والمحصنات من النساء ) الآية{[2507]} [ النساء : 24 ] ، وإذا استحققن الاسم فهن في الآية حتى يظهر الإخراج ، والله أعلم .

وبعد فإنا نقول : أكثر ما في ذلك أن يكون في ذلك النهي عن تزوج الإماء من أهل الكتاب ، فإن النهي في ذلك لا يدل على الحرمة لأنه معلوم المعنى الذي له يقع النهي عن نكاح الإماء : أنه لمكان رق الأولاد ولمكان مخالطة الإماء الرجال وخلوتهن بالمولى ، وذلك مما ينفر عنه الطباع ، ثم كانت النساء الزانيات ، جميع ذلك فيهن موجود ، والنهي قائم ، وقد يلحق أولادهن أعظم الشين الذي يضعف على الرق . ثم لم يمنع النهي جواز نكاحهن بما هو نهي نفار الطباع ، لا معنى له في ذلك له بكون الحرمة ، فمثله أمر الإماء ، والله الموفق .

ثم دليل حلهن أن كل امرأة حرمت لنفسها ؛ فسواء وجه الحل بهن في ملك اليمين والنكاح ، وكل امرأة كانت حرمتها بالحق فيختلف فيها الملكان ؛ فإذا كانت هذه محللة بملك اليمين ثبت أنها لم تحرم لنفسها ، فهي تحل بالنكاح كما تحل بملك اليمين . على هذا الأصل أمر المجوسيات والمحارم ونحوها ، والله أعلم .

وقال قوم : الآية في جميع المشركات والكتابيات ، ثم نسخت الكتابيات بالآية التي في سورة المائدة{[2508]} ، وكان النسخ بشرط الإحصان ، فبقيت الإماء على الحرمة ، دليل ذلك وجهان :

أحدهما : قوله : ( ولا تنكحوا المشركين ) إنه يدخل في ذلك الكتابي وغيره ، فكذا في الأول .

والثاني : قوله : ( أولئك يدعون إلى النار ) / 36-أ/ الآية ؛ إن الكتابي مشرك في الحقيقة ، إذ هو بما لا يغفر والكتابي في الدعاء إليها وغيره سواء ، فلذلك كان على ما ذكرت .

فنحن نقول في ذلك ، وبالله التوفيق : ليس في ما ذكر دليل على ما ادعى ؛ لأنه جائز خروج آية واحدة في أمرين ، يختلف موقعهما من الخصوص والعموم بالدليل ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم ){[2509]} الآية [ التوبة : 119 ] ؛ أنه قد يجوز التخلف عنه لعذر ، ولا تجوز الرغبة عنه بحال . وقال في قوله : ( لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ) الآية {[2510]} [ المائدة : 12 ] ، أن ليس كل ذلك مما يقتضي عموم الخلق ، وإن كان الظاهر في الكل بالمخرج واحدا{[2511]} . ثم ما ذكرت من الآية دليل الفصل .

والثاني أنه يجوز أن تكون الآية في غير أهل الكتاب ؛ دليل ذلك الأمر بالمعروف من التفريق في التسمية ، وإن كانوا في الشرك مجتمعين ؛ قال الله تعالى : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ) [ البقرة : 105 ] ، وقال : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم ) [ الآية ]{[2512]} [ البينة : 6 ] ، وغير ذلك مما فضل الله بينهم في النسبة ، وإن كانوا في حقيقة الشرك مجتمعين ؛ فجائز أن تكون الآية على ذلك ، ثم حرم تزويج المسلمات من أهل الكتاب ، لا بهذه الآية ، ولكن بغيرها من الأدلة . ألا ترى أنا لا نترك مماليك أهل الإسلام تحت أيديهم لا بهذه الآية ، فمثله أمر الإنكاح ، والله أعلم ؟

ثم في الآية دليل ذلك ، وهو قوله : تعالى : ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ) الآية ، وكل يجمع ألا يحل نكاح الأمة المؤمنة على الحرة الكتابية ، فلو كانت هي مرادة في هذه الآية نكاح من هو خير منها في النكاح لا يحرم عليه ، حتى إن الذي يقول بهذا التأويل يحرم لطول الكتابية فضلا عن نكاحها ، ولا قوة إلا بالله .

وقوله : ( أولئك يدعون إلى النار ) دليل أن الإماء غير داخلات في الخطاب ، لأنهن لا يدعون ، بل الغالب عليهن أن يتبعن ، ويجبن لمن هن تحتهم فيما دعين إليه ، لا أن يدعون ، هذا الأمر المتعارف ، والله أعلم .

ثم نقول : أجعل كأن الآية نزلت في الكتابيات ، فقال : ولا تنكحوا الكتابيات ؟ فإن الكتاب في جميع ما جرى به الذكر في حقوق النكاح والطلاق والأحكام ضمن{[2513]} الخطاب الأحرار ، خاصة فيما أبهم ، وعرف أمر الحرمة في الإماء والعبيد بالأدلة العقلية مما دلت عليه أحكام السمع ، فكذا هذا ، والله الموفق .

وقوله : ( ولا تنكحوا ) محمول على التحريم باتفاق الأمة ، وإن احتمل ما هو بهذا المخرج على غير التحريم ، على أن الله تعالى قد بين بقوله : ( إذا جاءكم المؤمنات ) [ إلى قوله ]{[2514]} ( ولا جناح عليكم أن تنكحوهن ) الآية{[2515]} [ الممتحنة : 10 ] أن النكاح قد انفسخ حين أباح لغير الأزواج التزوج ، وفي قوله : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 24 ] أن الاستمتاع بذوات الأزواج إذا سبين ، وقال : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) [ الممتحنة : 10 ] ذكر جملة النساء ونهى الرسل عن التمسك بعصمتهن ، واسم الشرك لفريق بالإطلاق ، واسم الكفر للجملة على ما قال : ( ود الذين [ كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) {[2516]} الآية ، [ النساء : 102 ] وقال : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب ) الآية [ البينة : 6 ] وغير ذلك مما جمع في اسم الكفر ، وفرق بأسماء المذاهب ، وجعل اسم الشرك في التفريق ، فدلت هذه الآيات على الحرمة في قوله : ( ولا تنكحوا ) الآية ، ويدل قوله في آخر الآية : ( أولئك يدعون إلى النار ) على ذلك . ومعلوم أن أول دعائهم إلى النكاح ، فصير ذلك إلى النار ، وما يوجبها حرام .

ثم فيها دلالة عموم الآية في الذكور ؛ لأنه في تعارف الخلق أن الرجال هم الذين يدعون لا النساء . والنساء تتبعهم ، وذلك المعنى في رجال أهل الكتاب وغيرهم سواء ، فتكون الحرمة فيهم سواء ، وعلى ذلك المروي من الخبر أن رجلا أسلم ، وتحته ثماني نسوة وأختان ، ونحو ذلك ، فأسلمن ، دل أنهن يتبعن الرجال ، لا أنهن يدعون إلى ما يخترن من الدين ، والله أعلم .

ثم الدليل على أن النهي أيضا نهي تحريم في قوله : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) أنه لو لا خبث فيهن في الحقيقة ، يوجب حرمة الاستمتاع ، لكان لا ينهى عن التناكح ، وذلك من أبلغ أسباب دعوتهم إلى الإسلام بما ذكرت من الفرق في طاعتهن الأزواج فيما يختارون من الدين في المتعارف بمن رويت فيهن الخبر ، وخاصة ذلك في المشركات أحق في الحل منه في الكتابيات ؛ إذ هن إنما أخذن دينهن عن آبائهن بالاعتياد والتقليد ، ومعلوم أن اعتيادهن ما فيه رضا الأزواج إيثار ذلك على ما فيه رضا الآباء حتى يؤثرنهم{[2517]} عليهم بما جعل الله بينهم ( مودة ورحمة ) [ الروم : 21 ] ، والكتابيات أخذن دينهن بما علمن{[2518]} انه دين الرسل ، [ وأنهن أمرن ]{[2519]} بالتمسك به ، فإذا نهوا عن نكاح المشركات ، وأبيح لهم نكاح الكتابيات ، والإسلام فيهن بالنكاح أرجى ، ثبت أن ذلك لخبث نهوا ، وقد حرم الله الخبائث ، والله أعلم .

ثم الله تعالى أخبر أنه حرم الخبائث ، وأحل الطيبات{[2520]} ، فلولا أن فيما{[2521]} حرم خبثا{[2522]} ، يحتمل الوقوف عليه ، وفيما أحل طيب لسؤال{[2523]} الحرمة والحل له ، كان ذلك لم يحتمل التسمية في وصف التحريم والتحليل ، هو لا غير ، وهذا كما وصف المؤمن بالحياة والسمع والبصر والكافر بضد ذلك{[2524]} بما في كل معنى ذلك ، لا أنه اسم لقب دون أن يكون له حقيقة ، له يسمى ، فمثله الذي ذكرت .

ثم كان الخبث ، يكون من وجهين : من خبث الأحوال ، ومن خبث الأفعال ، وله سمى الكفر رجسا{[2525]} ، وكذا الخمر والميسر{[2526]} ، وذلك كله بخبث الأفعال ، وعلى ذلك يكون [ تحريم ]{[2527]} تزويج المسلمات المشركين لخبث الفعل ، وهو خوف وقوع الكفر ، إذ هن يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ، ويقلدونهم{[2528]} الدين ، فيكون التحريم لهذا الخوف ؛ إذ هو الوجه الذي عليه جرت حرمات النكاح من ذلك نحو نكاح ما كثر عددهن بقوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) [ النساء : 3 ] ، فمنع عن الخمس ، وأكثر الخوف وقوع الجور الذي هو في العقل خبيث ، ونكاح الأمة بعد الحرة ، إذ الطبع ينفر عن مناكحة من تخالط الرجال ، [ يخلون بها ]{[2529]} لا يؤمن عليه السفاح ، فما{[2530]} يؤثر مثلها عند الغنى بالحرة عنده عنها إلا لأمر حدث بينهما مما يبعث ذلك على الجور{[2531]} ، فنهوا عن ذلك ، وكذلك نكاح المحارم بما قد يجري من الأمور مما يحتمل على تضييع الحدود وأنواع النشوز الذي يمنع ذلك القيام بحق النسب وصلته ؛ فيكون في ذلك تضييع الفرض ، وكذلك محارم المرأة . وعلى هذا يجب تحريم المسلمة على الكتابي وغيره لخوف وقوع فعل الخبث بينهما ، وهو الكفر . ولم يقع النهي عن نكاح الزانية والزاني على ذلك ؛ لأنه ليس في الطباع احتمال اتباع أحدهما الآخر في ذلك الوجه ، بل ينفر عن ذلك أشد النفار ، فلا يخاف فيه هذا ، فهو على الأدب بما يحلق الولد الطعن ، وصاحبه يشتم به ، لا أن يلحقه وصفه مواقعة مأثم إلا لمكان{[2532]} الآخر ، يكون النهي نهي تحريم ، بل كان على الإرشاد بما يلحق من الطعن دون ما أن يحدث من تعدي حد أو جور في الفعل . وعلى ذلك أمر نكاح الأمة ، والله أعلم .

ثم وجه التفصيل بين الكتابية والمشركة ، والله أعلم ، في إباحة التناكح أن المشركة آثرت فعل البهيمي في الدين على فعل البشري ، والكتابية آثرت فعل البشري ، وهو ما يدعو إليه العقل لا الطباع ، لأنهن يرجعن في الاختيار إلى الإيمان بالرسل ، لكن أنهي إليهن أنهم نهوا عن الإيمان بمن يدعوهن إليه ، فاعتقدن على ذلك بالإيثار عندهن من الحجج كما اعتقدنا نحن بأن لا نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لكن خبرنا صحيح ، وخبرهم فاسد ، وإلا فوجه الاعتقاد على ما في العقل ذلك .

وأما المشركة لم تخبر ذلك بحجة ، إنما كان بوجود الآباء على ذلك من غير الإنهاء/ 36-ب/ إلى [ ما ]{[2533]} في العقل اتباعه كما ( قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة ) الآية{[2534]} [ الزخرف : 22 ] ، فحرم علينا نكاحها لخبث اختيار واتباع فعل البهيمي وإيثاره على فعل البشري ، والله أعلم . وعلى ذلك لو أسلمت لم تعظم درجة إسلامها ، لولا أنا نرجو من رحمة الله ، أن الله إذا قبلت هي الإسلام بالاعتياد لينير قلبها حتى ينشرح صدرها للحق ، لكان لا يكون لإسلامها فضل حمد ، والله الموفق .

ووجه آخر أن الكتابية لما آمنت بكتب الأنبياء [ عليهم السلام ]{[2535]} في الملة ، فقد آمنت بذلك بالرسل جميعا ، لكنها كذبت [ من كذبت ]{[2536]} مما وقع الخبر عندها بخلاف الحقيقة ، فأمكن أن تنبه عن حقيقة ذلك بالكتاب الذي آمنت به ليكون إيمانها في الحقيقة إيمانا{[2537]} بمن كذبته بما ظنت أن في ذلك الكتاب تصديقا{[2538]} . والمشركة احتيج فيها على ابتداء الإلزام ، لا أن كان معها ما به اللزوم مما قد وجد إيمانها به ، والله أعلم . وعلى هذا لا يسلم للمرتد حق الكتاب إذا اختاره ؛ لأنا نعلم أنه يظهر ذلك ، لا أن في الحقيقة مختارا ؛ إذ كتابنا مصدق كتابهم ، فلم يجز أن تظهر له بما به التصديق التكذيب ليرجع إلى رد هذا بقبول الآخر ، فلذلك لم تحل ذبائحهم ، والله أعلم .

ودليل النهي عن النكاح والإنكاح حتى يكون الإيمان أن الإيمان معروف عندهم ، يعلمون به حقيقة الشرط ، والله أعلم .

ومخاطبات الأولياء في قوله : ( ولا تنكحوا ) تخرج على الأمر بالمعروف من التولي أو على الوقت الذي إليهم حق التولية أو على أن الحق لهن عليهم في التزويج إذا أردن ، فنهوا عن ذلك ليعلم أن لا حق لهم في ذلك ، والله أعلم .

وقوله : ( يدعون إلى النار ) يحتمل وجهين :

أحدهما : الخبر عما يدعو بعضهم بعضا إلى عبادة غير الله ؛ وذلك دعاء إلى النار ، كما قال [ الله تعالى ]{[2539]} : ( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) [ فاطر : 6 ] ، بما يوجب الفعل الذي دعوا إليه ذلك ، فكأنما دعوا إلى ذلك ، إذ هو المقصود من الثاني . وعلى ذلك تسمية الجزاء [ باسم العمل الذي له الجزاء ]{[2540]} ، والله أعلم .

[ والثاني ]{[2541]} : ( يدعون ) في التناكح للهو واستكثار الأتباع في معاداة الله تعالى ومعاداة أوليائه بالتناكح ، والله تعالى يدعو إلى التعفف واستكثار الأتباع على ما ينال به مغفرته ورحمته ، والله الموفق .

وقوله : ( أولئك يدعون إلى النار ) يعني يدعون إلى العمل الذي يستوجب به النار ، ( والله يدعو إلى الجنة ) يعني يدعو إلى العمل الذي يوجب لهم الجنة والمغفرة ( بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) .


[2487]:- من ط ع.
[2488]:- من ط ع.
[2489]:- من ط ع.
[2490]:- في النسخ الثلاث: آية.
[2491]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[2492]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[2493]:- في النسخ الثلاث: مستثنى.
[2494]:- في انسخ الثلاث: منها.
[2495]:- في النسخ الثلاث: بحيث.
[2496]:- من ط ع.
[2497]:- من ط ع و م، في الأصل: للكل وبعضها للخاص.
[2498]:- ساقطة من ط ع.
[2499]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[2500]:- من ط ع و م، في الأصل: قوم.
[2501]:- في ط ع: حلمهن.
[2502]:- من ط ع، في الأصل و م: لا.
[2503]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[2504]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[2505]:- ساقطة من ط ع.
[2506]:- من ط ع، في الأصل و م: غير.
[2507]:- أدرجت في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[2508]:- المقصود الآية الخامسة (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب).
[2509]:- أدرج بعدها في ط ع: (من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه).
[2510]:- أدرجت تتمة الآية في ط ع بدلا منها.
[2511]:- في النسخ الثلاث: واحد.
[2512]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[2513]:- في النسخ الثلاث: تضمن.
[2514]:- أدرج في ط ع بدل هذه العبارة: (فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا).
[2515]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[2516]:- من ط ع.
[2517]:- من م و ط ع، في الأصل: يؤثرونهم.
[2518]:- في ط ع: أعلمن.
[2519]:- من ط ع، في الأصل و م: وأنم أمروا.
[2520]:- إشارة إلى قوله في الأعراف: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) [الآية: 157].
[2521]:- من ط ع و م، في الأصل: فيها.
[2522]:- في النسخ الثلاث: خبث.
[2523]:- في ط ع و م: لسوء.
[2524]:- إشارة إلى قوله: (هل يستوي الأعمى والبصير) [الأنعام: 50] وقوله: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [الزمر: 9].
[2525]:- إشارة إلى قوله: (إنهم رجس) [التوبة: 95].
[2526]:- إشارة إلى قوله: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس) [المائدة: 90].
[2527]:- من ط ع.
[2528]:- في النسخ الثلاث: ويقلدونهن.
[2529]:- في النسخ الثلاث: ويخلو بهن.
[2530]:- من ط ع و م، في الأصل: فيما.
[2531]:- في ط ع: الجسور.
[2532]:- من ط ع، في الأصل و م: المكان.
[2533]:- من ط ع و م.
[2534]:- أدرج في ط ع الآية بدل هذه الكلمة.
[2535]:- في ط ع: عليهم الصلوات والسلام.
[2536]:- من ط ع.
[2537]:- في النسخ الثلاث: إيمان.
[2538]:- في النسخ الثلاث: تصديق.
[2539]:- من ط ع.
[2540]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل، والمصنف يشير بذلك إلى قوله تعالى في سورة الشورى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) [الآية: 40].
[2541]:- في النسخ الثلاث: ويحتمل.