الآية 221 وقوله تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) اختلف [ أهل التأويل ]{[2487]} . في تأويل [ هذه ]{[2488]} الآية ؛ فقال قائلون : الحظر على كل مشرك ومشركة كتابيا أو غير كتابي ، ثم نسخ بقوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) بالمائدة : 5 ] ؛ فالإماء على الحظر لأنه إ نما استثنى الحرائر دون الإماء بقوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) .
وقال آخرون : هو على المشركات خاصة دون الكتابيات ، والكتابيات مستثنيات ، فدخلت كل كتابية : حرة كانت أو أمة [ تحت الاستثناء ]{[2489]} لأن الاستثناء إذا كان عن جملة الأديان سوى دين الكتابيات لم يحتمل دخول بعض أهل ذلك الدين دون بعض . والذي يدل عليه قوله : ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) فجعل الأمة المؤمنة خيرا بالنكاح من المشركة ، ومن قوله : أنه{[2490]} بالقدرة على طول الحرة الكافرة لا يباح له نكاح الأمة المؤمنة ، فبان أن موقع الآية ليس على التناسخ على ما يقوله : على [ أن ]{[2491]} الإماء يدخلن تحت قوله عز وجل : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 24 ] ؛ [ دليله ]{[2492]} قوله تعالى : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) [ النساء : 25 ] ، فثبت أنهن قد يتعففن ، فيستوجبن اسم الإحصان ، وقد جعل شرط الحل هو ذكر الإحصان ، وقوله أيضا : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) [ النور : 33 ] ، وقوله : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمناكم ) [ النساء : 24 ] مستثنيا{[2493]} الإماء من جملة المحصنات ، دل أنهم دخلن في الخطاب ، وقد أجمع على أنهن حل لنا بالسبي ، وكل مذكور في الكتاب يستوي الحل فيه إلا من جهة العدو ؛ فإذا أبيح لنا تزويج المسبيات منهن بالحرائر ثبت أنه محكوم بحكمهن في النكاح ، فبطل قول من أبطل نكاح الإماء ، إذ ثبت أن الآية بخلاف ما قال ، وبالله التوفيق .
أحدها{[2494]} : أن من قول أصحابنا ، رحمهم الله : إن المناهي بحق{[2495]} النهي ، لا توجب الحرمة .
والثاني : أن الآية كيف كان حملها على الخصوص في بعض أحق والعموم في بعض ، ومخرج الخطابين واحد .
والثالث : أن في الآية ذكر المنع لعلة ، وهو الدعوة إلى النار ، فكيف لم يلزم حفظ ما لأجله وجبت الحرمة على وجوده ؟ وهذا هو الأصل /35-ب/ أن يحفظ الأحكام بالعلل ، مادامت توجد العلل .
والرابع : البيان في تولي النكاح ، إذ للأولياء خرج الخطاب بقوله : ( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) .
وأما قولنا في النهي فإن النهي يوجب الانتهاء ، ولكن لا يوجب الحرمة إلا بدليل يقوم على مراد الحرمة في النهي ، لما رأينا من المناهي كثيرة لم توجب الحرمة . فلو كان نفس النهي موجبا ذلك لوجب أن يوجب في كل ذلك ، فلما لم يوجب ذلك دل أن نفسه ، لا يوجب الحرمة ، ولكن الدليل ، هو الموجب للحرمة .
وأما قولهم وسؤالهم عن الخصوص والعموم فذلك جائز عندنا : خروج الآية على العموم يعقل بها الخصوص ، وهو كثير في القرآن مما لا يحتاج إلى ذكره وشرحه ؛ ومن ذلك قوله : [ عز وجل ]{[2496]} : ( لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي ) [ المائدة : 12 ] عقل إيجاب تعظيم الرسل والأنبياء [ والإيمان لهم على العموم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة في حق البعض دون البعض ]{[2497]} ، وكذا قوله : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) [ التوبة : 120 ] فالتخلف غير موجود في بعض الأحايين{[2498]} ، وإن حق النهي عن الرغبة عن نفسه أخذ الجميع ، فعلى ذلك ههنا يجوز خروجه عاما يخص بالعقول .
وأما قولهم : وجوب الحكمة لعلة ، وهو الدعاء إلى النار فله وجهان :
أحدهما : أن الكتابي أقر بكتاب ، يقدر على إلزام الدين بالدعاء إليه ، ففيه رجاء الإسلام ، وغيرهم من أهل الشرك لا طمع بمثله .
والثاني : أن علة الحظر قوله : ( أولئك يدعون إلى النار ) والزوجات لا يدعون أزواجهن إلى ذلك ، بل الأزواج هم الأصل في الدعاء ، وهم الأمراء [ على ]{[2499]} الزوجات ، والزوجات بين الأتباع للأزواج والمذللات في أيديهم ، لذلك أبيح .
ثم الأصل بأن النكاح جعل لأمرين : إما لإبقاء النسل وإما للتحصن والتعفف عن السفاح ، قد ينكح من لا نسل فيه ، فما بقي إلا وجه المنع عن السفاح . ثم الدعاء إلى النار أعظم من السفاح ، بهذا لم يبح النكاح .
ثم الدلالة على تخصيصها وجهان :
أحدهما : قول{[2500]} الخصوم بالنسخ : إنه ورد على بعض دون بعض ، وما ذلك إلا الخصوص .
والثاني : أن ذكر ذلك في الكتابيات لم يجز بحيث إظهار ما يحل وما يحرم ، إذ شرط نكاحهن إما هو عند العجز عن الحرائر ، فجرى الذكر فيهن ، إذ هن الأصل في عقود النكاح ، وإن الإماء دخيلات في حق النكاح ، وإنما جرى الذكر في حلهن{[2501]} بملك اليمين . لذلك ترك ذكرهن مع ما يجوز دخول الإماء في قوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) [ المائدة : 5 ] لما{[2502]} أوجب لهن العفة والتحصن بقوله : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) [ النساء : 25 ] وبقوله : ( محصنات غير مسافحات ) [ النساء : 25 ] .
وأما قولهم : خاطب الأولياء [ في النهي بقوله : ( ولا تنكحوا المشركين ) ، وخاطب ]{[2503]} الأولياء أيضا في الأمر بالنكاح الأيامى بقوله : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) [ النور : 32 ] ، فدل أن [ شهادة ]{[2504]} الولي شرط في جواز النكاح .
فجوابنا أنه إنما خاطب الأولياء في النهي عن النكاح لما العرف في الأمة ألا يتولى النساء بأنفسهن ، بل الأولياء هم الذين يتولون عليهن النكاح برضاهن وأمرهن وتدبيرهن ، لذلك خرج الخطاب للأولياء مع ما ليس في تخصيص بالخطاب دليل إخراج النساء عن ولاية النكاح .
ألا ترى أنه ذكر في الآية الصلاح بقوله : ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) [ النور 32 ] ، لم يصر ذلك شرطا في الجواز ؟ فعلى ذلك الأول ، وهذا يدل أيضا على أن ليس في تخصيص المحصنات من الكتابيات حظر نكاح الإماء منهن . والثاني أن قوله : ( ولا تنكحوا المشركات ) ، يحتمل أن يكون في الصغار خاصة ؛ نهى الأولياء عن تزويج الصغار من المسلمين والمشركات من غير الكتابيات . فإذا كان محتملا ما ذكرنا لم يكن لمخالفنا الاحتجاج به علينا في إبطال نكاح المرأة نفسها دون وليها ، والله أعلم .
وقوله : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) اختلف في تأويله : قال قوم هو في غير الكائنات ؛ يبين ذلك قوله : ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات ) [ المائدة : 5 ] فنسق الكتابيات بالإحلال على ما تختلف أحوال الحل من أول الإسلام إلى الأبد ، ولا من قبل{[2505]} ذلك ، نحو الطيبات من الطعام من طعام المؤمنين وأهل الكتاب ، ونحو المحصنات من المؤمنات ، ومثله الكتابيات ؛ إذ يسبق نكاحهن على من ذكر . ولو كان التأويل هذا كانت الآية نطقت بألا تنكحوا المشركات غير الكتابيات ، فلا يكون في الآية تحريم الإماء من أهل الكتاب ولا النهي عن ذلك ، وإنما يعرف إن كان يجوز أو لا بدليل آخر سوى هذه الآية .
فإن قيل : على ذلك لم لا كانت آية الإحلال في التخصيص بذكر المحصنات دليلا على حرمة نكاح الإماء ؟ قيل : يكون الجواب لأوجه .
أحدها : أن ذكر الحل في حال لا يدل على الحرمة في غيرها ، كذلك الحل في صنف لا يدل على حرمة في غيره ، ولو كان ذا يدل لكان يجيء أن يكون حكم ما لا يرد فيه السمع مخالفا لما يرد فيه ، وذلك فاسدؤؤء ؛ إذ السمع هو دليل الحكم في ما لا سمع فيه بالمعنى الذي ضمن فيه ، والله أعلم . وأيد ذلك قوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) [ المائدة : 5 ] ، ثم هن يحللن ، وإن لم يؤتين أجورهن ، فمثله الأول .
والثاني : أنه مسوق على مثله في المؤمنات ، ثم لم يكن ذلك في المؤمنات على تحريم الإماء ، فمثله في الكتابيات . فإن قيل : لم بين في إماء المؤمنات ؟ قيل لهم : لم يزعم أحد أن ذلك على نسخ هذه الآية ، فثبت أنه ليس في الذكر في المحصنات تحريم الغير ، فكذلك في المنسوق على ذلك مع ما لو كان في مثل هذا لكان في قوله : ( ولا تنكحوا المشركات ) ، إذ وقع على غير الكتابيات دليل على الإحلال ، فيكون ذكر الحرمة في نوع دليل الحل في غيره{[2506]} على مثل ذكر الحل في نوع ، وفي ذلك تناقض الأدلة ، والله أعلم .
ووجه آخر : أن المحصنات يحتمل أن يريد به العفائف وأهل الصلاح ، والإماء قد يستحققن هذا الاسم كقوله : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن ) [ النساء : 25 ] وقوله : ( محصنات غير مسافحات ) [ النساء : 25 ] وقوله : ( والمحصنات من النساء ) الآية{[2507]} [ النساء : 24 ] ، وإذا استحققن الاسم فهن في الآية حتى يظهر الإخراج ، والله أعلم .
وبعد فإنا نقول : أكثر ما في ذلك أن يكون في ذلك النهي عن تزوج الإماء من أهل الكتاب ، فإن النهي في ذلك لا يدل على الحرمة لأنه معلوم المعنى الذي له يقع النهي عن نكاح الإماء : أنه لمكان رق الأولاد ولمكان مخالطة الإماء الرجال وخلوتهن بالمولى ، وذلك مما ينفر عنه الطباع ، ثم كانت النساء الزانيات ، جميع ذلك فيهن موجود ، والنهي قائم ، وقد يلحق أولادهن أعظم الشين الذي يضعف على الرق . ثم لم يمنع النهي جواز نكاحهن بما هو نهي نفار الطباع ، لا معنى له في ذلك له بكون الحرمة ، فمثله أمر الإماء ، والله الموفق .
ثم دليل حلهن أن كل امرأة حرمت لنفسها ؛ فسواء وجه الحل بهن في ملك اليمين والنكاح ، وكل امرأة كانت حرمتها بالحق فيختلف فيها الملكان ؛ فإذا كانت هذه محللة بملك اليمين ثبت أنها لم تحرم لنفسها ، فهي تحل بالنكاح كما تحل بملك اليمين . على هذا الأصل أمر المجوسيات والمحارم ونحوها ، والله أعلم .
وقال قوم : الآية في جميع المشركات والكتابيات ، ثم نسخت الكتابيات بالآية التي في سورة المائدة{[2508]} ، وكان النسخ بشرط الإحصان ، فبقيت الإماء على الحرمة ، دليل ذلك وجهان :
أحدهما : قوله : ( ولا تنكحوا المشركين ) إنه يدخل في ذلك الكتابي وغيره ، فكذا في الأول .
والثاني : قوله : ( أولئك يدعون إلى النار ) / 36-أ/ الآية ؛ إن الكتابي مشرك في الحقيقة ، إذ هو بما لا يغفر والكتابي في الدعاء إليها وغيره سواء ، فلذلك كان على ما ذكرت .
فنحن نقول في ذلك ، وبالله التوفيق : ليس في ما ذكر دليل على ما ادعى ؛ لأنه جائز خروج آية واحدة في أمرين ، يختلف موقعهما من الخصوص والعموم بالدليل ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم ){[2509]} الآية [ التوبة : 119 ] ؛ أنه قد يجوز التخلف عنه لعذر ، ولا تجوز الرغبة عنه بحال . وقال في قوله : ( لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ) الآية {[2510]} [ المائدة : 12 ] ، أن ليس كل ذلك مما يقتضي عموم الخلق ، وإن كان الظاهر في الكل بالمخرج واحدا{[2511]} . ثم ما ذكرت من الآية دليل الفصل .
والثاني أنه يجوز أن تكون الآية في غير أهل الكتاب ؛ دليل ذلك الأمر بالمعروف من التفريق في التسمية ، وإن كانوا في الشرك مجتمعين ؛ قال الله تعالى : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ) [ البقرة : 105 ] ، وقال : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم ) [ الآية ]{[2512]} [ البينة : 6 ] ، وغير ذلك مما فضل الله بينهم في النسبة ، وإن كانوا في حقيقة الشرك مجتمعين ؛ فجائز أن تكون الآية على ذلك ، ثم حرم تزويج المسلمات من أهل الكتاب ، لا بهذه الآية ، ولكن بغيرها من الأدلة . ألا ترى أنا لا نترك مماليك أهل الإسلام تحت أيديهم لا بهذه الآية ، فمثله أمر الإنكاح ، والله أعلم ؟
ثم في الآية دليل ذلك ، وهو قوله : تعالى : ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ) الآية ، وكل يجمع ألا يحل نكاح الأمة المؤمنة على الحرة الكتابية ، فلو كانت هي مرادة في هذه الآية نكاح من هو خير منها في النكاح لا يحرم عليه ، حتى إن الذي يقول بهذا التأويل يحرم لطول الكتابية فضلا عن نكاحها ، ولا قوة إلا بالله .
وقوله : ( أولئك يدعون إلى النار ) دليل أن الإماء غير داخلات في الخطاب ، لأنهن لا يدعون ، بل الغالب عليهن أن يتبعن ، ويجبن لمن هن تحتهم فيما دعين إليه ، لا أن يدعون ، هذا الأمر المتعارف ، والله أعلم .
ثم نقول : أجعل كأن الآية نزلت في الكتابيات ، فقال : ولا تنكحوا الكتابيات ؟ فإن الكتاب في جميع ما جرى به الذكر في حقوق النكاح والطلاق والأحكام ضمن{[2513]} الخطاب الأحرار ، خاصة فيما أبهم ، وعرف أمر الحرمة في الإماء والعبيد بالأدلة العقلية مما دلت عليه أحكام السمع ، فكذا هذا ، والله الموفق .
وقوله : ( ولا تنكحوا ) محمول على التحريم باتفاق الأمة ، وإن احتمل ما هو بهذا المخرج على غير التحريم ، على أن الله تعالى قد بين بقوله : ( إذا جاءكم المؤمنات ) [ إلى قوله ]{[2514]} ( ولا جناح عليكم أن تنكحوهن ) الآية{[2515]} [ الممتحنة : 10 ] أن النكاح قد انفسخ حين أباح لغير الأزواج التزوج ، وفي قوله : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 24 ] أن الاستمتاع بذوات الأزواج إذا سبين ، وقال : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) [ الممتحنة : 10 ] ذكر جملة النساء ونهى الرسل عن التمسك بعصمتهن ، واسم الشرك لفريق بالإطلاق ، واسم الكفر للجملة على ما قال : ( ود الذين [ كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) {[2516]} الآية ، [ النساء : 102 ] وقال : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب ) الآية [ البينة : 6 ] وغير ذلك مما جمع في اسم الكفر ، وفرق بأسماء المذاهب ، وجعل اسم الشرك في التفريق ، فدلت هذه الآيات على الحرمة في قوله : ( ولا تنكحوا ) الآية ، ويدل قوله في آخر الآية : ( أولئك يدعون إلى النار ) على ذلك . ومعلوم أن أول دعائهم إلى النكاح ، فصير ذلك إلى النار ، وما يوجبها حرام .
ثم فيها دلالة عموم الآية في الذكور ؛ لأنه في تعارف الخلق أن الرجال هم الذين يدعون لا النساء . والنساء تتبعهم ، وذلك المعنى في رجال أهل الكتاب وغيرهم سواء ، فتكون الحرمة فيهم سواء ، وعلى ذلك المروي من الخبر أن رجلا أسلم ، وتحته ثماني نسوة وأختان ، ونحو ذلك ، فأسلمن ، دل أنهن يتبعن الرجال ، لا أنهن يدعون إلى ما يخترن من الدين ، والله أعلم .
ثم الدليل على أن النهي أيضا نهي تحريم في قوله : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) أنه لو لا خبث فيهن في الحقيقة ، يوجب حرمة الاستمتاع ، لكان لا ينهى عن التناكح ، وذلك من أبلغ أسباب دعوتهم إلى الإسلام بما ذكرت من الفرق في طاعتهن الأزواج فيما يختارون من الدين في المتعارف بمن رويت فيهن الخبر ، وخاصة ذلك في المشركات أحق في الحل منه في الكتابيات ؛ إذ هن إنما أخذن دينهن عن آبائهن بالاعتياد والتقليد ، ومعلوم أن اعتيادهن ما فيه رضا الأزواج إيثار ذلك على ما فيه رضا الآباء حتى يؤثرنهم{[2517]} عليهم بما جعل الله بينهم ( مودة ورحمة ) [ الروم : 21 ] ، والكتابيات أخذن دينهن بما علمن{[2518]} انه دين الرسل ، [ وأنهن أمرن ]{[2519]} بالتمسك به ، فإذا نهوا عن نكاح المشركات ، وأبيح لهم نكاح الكتابيات ، والإسلام فيهن بالنكاح أرجى ، ثبت أن ذلك لخبث نهوا ، وقد حرم الله الخبائث ، والله أعلم .
ثم الله تعالى أخبر أنه حرم الخبائث ، وأحل الطيبات{[2520]} ، فلولا أن فيما{[2521]} حرم خبثا{[2522]} ، يحتمل الوقوف عليه ، وفيما أحل طيب لسؤال{[2523]} الحرمة والحل له ، كان ذلك لم يحتمل التسمية في وصف التحريم والتحليل ، هو لا غير ، وهذا كما وصف المؤمن بالحياة والسمع والبصر والكافر بضد ذلك{[2524]} بما في كل معنى ذلك ، لا أنه اسم لقب دون أن يكون له حقيقة ، له يسمى ، فمثله الذي ذكرت .
ثم كان الخبث ، يكون من وجهين : من خبث الأحوال ، ومن خبث الأفعال ، وله سمى الكفر رجسا{[2525]} ، وكذا الخمر والميسر{[2526]} ، وذلك كله بخبث الأفعال ، وعلى ذلك يكون [ تحريم ]{[2527]} تزويج المسلمات المشركين لخبث الفعل ، وهو خوف وقوع الكفر ، إذ هن يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ، ويقلدونهم{[2528]} الدين ، فيكون التحريم لهذا الخوف ؛ إذ هو الوجه الذي عليه جرت حرمات النكاح من ذلك نحو نكاح ما كثر عددهن بقوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) [ النساء : 3 ] ، فمنع عن الخمس ، وأكثر الخوف وقوع الجور الذي هو في العقل خبيث ، ونكاح الأمة بعد الحرة ، إذ الطبع ينفر عن مناكحة من تخالط الرجال ، [ يخلون بها ]{[2529]} لا يؤمن عليه السفاح ، فما{[2530]} يؤثر مثلها عند الغنى بالحرة عنده عنها إلا لأمر حدث بينهما مما يبعث ذلك على الجور{[2531]} ، فنهوا عن ذلك ، وكذلك نكاح المحارم بما قد يجري من الأمور مما يحتمل على تضييع الحدود وأنواع النشوز الذي يمنع ذلك القيام بحق النسب وصلته ؛ فيكون في ذلك تضييع الفرض ، وكذلك محارم المرأة . وعلى هذا يجب تحريم المسلمة على الكتابي وغيره لخوف وقوع فعل الخبث بينهما ، وهو الكفر . ولم يقع النهي عن نكاح الزانية والزاني على ذلك ؛ لأنه ليس في الطباع احتمال اتباع أحدهما الآخر في ذلك الوجه ، بل ينفر عن ذلك أشد النفار ، فلا يخاف فيه هذا ، فهو على الأدب بما يحلق الولد الطعن ، وصاحبه يشتم به ، لا أن يلحقه وصفه مواقعة مأثم إلا لمكان{[2532]} الآخر ، يكون النهي نهي تحريم ، بل كان على الإرشاد بما يلحق من الطعن دون ما أن يحدث من تعدي حد أو جور في الفعل . وعلى ذلك أمر نكاح الأمة ، والله أعلم .
ثم وجه التفصيل بين الكتابية والمشركة ، والله أعلم ، في إباحة التناكح أن المشركة آثرت فعل البهيمي في الدين على فعل البشري ، والكتابية آثرت فعل البشري ، وهو ما يدعو إليه العقل لا الطباع ، لأنهن يرجعن في الاختيار إلى الإيمان بالرسل ، لكن أنهي إليهن أنهم نهوا عن الإيمان بمن يدعوهن إليه ، فاعتقدن على ذلك بالإيثار عندهن من الحجج كما اعتقدنا نحن بأن لا نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لكن خبرنا صحيح ، وخبرهم فاسد ، وإلا فوجه الاعتقاد على ما في العقل ذلك .
وأما المشركة لم تخبر ذلك بحجة ، إنما كان بوجود الآباء على ذلك من غير الإنهاء/ 36-ب/ إلى [ ما ]{[2533]} في العقل اتباعه كما ( قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة ) الآية{[2534]} [ الزخرف : 22 ] ، فحرم علينا نكاحها لخبث اختيار واتباع فعل البهيمي وإيثاره على فعل البشري ، والله أعلم . وعلى ذلك لو أسلمت لم تعظم درجة إسلامها ، لولا أنا نرجو من رحمة الله ، أن الله إذا قبلت هي الإسلام بالاعتياد لينير قلبها حتى ينشرح صدرها للحق ، لكان لا يكون لإسلامها فضل حمد ، والله الموفق .
ووجه آخر أن الكتابية لما آمنت بكتب الأنبياء [ عليهم السلام ]{[2535]} في الملة ، فقد آمنت بذلك بالرسل جميعا ، لكنها كذبت [ من كذبت ]{[2536]} مما وقع الخبر عندها بخلاف الحقيقة ، فأمكن أن تنبه عن حقيقة ذلك بالكتاب الذي آمنت به ليكون إيمانها في الحقيقة إيمانا{[2537]} بمن كذبته بما ظنت أن في ذلك الكتاب تصديقا{[2538]} . والمشركة احتيج فيها على ابتداء الإلزام ، لا أن كان معها ما به اللزوم مما قد وجد إيمانها به ، والله أعلم . وعلى هذا لا يسلم للمرتد حق الكتاب إذا اختاره ؛ لأنا نعلم أنه يظهر ذلك ، لا أن في الحقيقة مختارا ؛ إذ كتابنا مصدق كتابهم ، فلم يجز أن تظهر له بما به التصديق التكذيب ليرجع إلى رد هذا بقبول الآخر ، فلذلك لم تحل ذبائحهم ، والله أعلم .
ودليل النهي عن النكاح والإنكاح حتى يكون الإيمان أن الإيمان معروف عندهم ، يعلمون به حقيقة الشرط ، والله أعلم .
ومخاطبات الأولياء في قوله : ( ولا تنكحوا ) تخرج على الأمر بالمعروف من التولي أو على الوقت الذي إليهم حق التولية أو على أن الحق لهن عليهم في التزويج إذا أردن ، فنهوا عن ذلك ليعلم أن لا حق لهم في ذلك ، والله أعلم .
وقوله : ( يدعون إلى النار ) يحتمل وجهين :
أحدهما : الخبر عما يدعو بعضهم بعضا إلى عبادة غير الله ؛ وذلك دعاء إلى النار ، كما قال [ الله تعالى ]{[2539]} : ( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) [ فاطر : 6 ] ، بما يوجب الفعل الذي دعوا إليه ذلك ، فكأنما دعوا إلى ذلك ، إذ هو المقصود من الثاني . وعلى ذلك تسمية الجزاء [ باسم العمل الذي له الجزاء ]{[2540]} ، والله أعلم .
[ والثاني ]{[2541]} : ( يدعون ) في التناكح للهو واستكثار الأتباع في معاداة الله تعالى ومعاداة أوليائه بالتناكح ، والله تعالى يدعو إلى التعفف واستكثار الأتباع على ما ينال به مغفرته ورحمته ، والله الموفق .
وقوله : ( أولئك يدعون إلى النار ) يعني يدعون إلى العمل الذي يستوجب به النار ، ( والله يدعو إلى الجنة ) يعني يدعو إلى العمل الذي يوجب لهم الجنة والمغفرة ( بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) .