قوله تعالى : { ولقد أخذناهم بالعذاب } وذلك { أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط ، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : بلى ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية : { فما استكانوا لربهم } أي : ما خضعوا وما ذلوا لربهم ، وأصله طلب السكون ، { وما يتضرعون } أي : لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم .
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } قال المفسرون : المراد بذلك : الجوع الذي أصابهم سبع سنين ، وأن الله ابتلاهم بذلك ، ليرجعوا إليه بالذل والاستسلام ، فلم ينجع فيهم ، ولا نجح منهم أحد ، { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ } أي : خضعوا وذلوا { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } إليه ويفتقرون ، بل مر عليهم ذلك ثم زال ، كأنه لم يصبهم ، لم يزالوا في غيهم وكفرهم ، ولكن وراءهم العذاب الذي لا يرد ، وهو قوله :
هؤلاء الذين لايؤمنون بالآخرة ، والذين تنكبوا الطريق ، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ، ولا الابتلاء بالنقمة . فإن أصابتهم النعمة حسبوا : ( أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات )وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم ، ولم تستيقظ ضمائرهم ، ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر ، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون .
( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون . ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون . حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ) . .
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس ، القاسية قلوبهم ، الغافلين عن الله ، المكذبين بالآخرة ، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
والاستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله ، والشعور بأنه الملجأ والملاذ . والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان ، واستيقظ وتذكر ، وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل ، وأفاد من المحنة و انتفع بالبلاء . فأما حين يسدر في غيه ، ويعمه في ضلاله ، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح ، وهو متروك لعذاب الآخرة ، الذي يفاجئه ، فيسقط في يده ، ويبلس ويحتار ، وييأس من الخلاص .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا، وأنزلنا بهم بأسنا، وسخطنا وضيّقنا عليهم معايشهم، وأجدبنا بلادهم، وقتلنا سراتهم بالسيف، "فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبّهِمْ "يقول: فما خضعوا لربهم فينقادوا لأمره ونهيه ويُنيبوا إلى طاعته، "وَما يَتَضَرّعُونَ" يقول: وما يتذللون له.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر عن سفههم وجهلهم بالله وقسوة قلوبهم وتمردهم وعنادهم حين أخبر أنهم، وإن أخذوا بالعذاب، لم يتضرعوا إليه، وما استكانوا له لجهلهم بعذاب الله حين أخبر أنهم، وإن أخذوا بالعذاب، لم يتضرعوا إليه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والاستكانة طلب السكون خوفا من السطوة. يقال: استكان الرجل استكانة إذا ذل عند الشدة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أذقناهم مقدماتِ العذابِ دونَ شدائِده... تنبيهاً لهم، فما انتبهوا وما انزجروا ولو أنهم إذ رأوا العذاب فزعوا إلى التضرعِ والابتهالِ لأسرع اللَّهُ زواله عنهم، ولكنهم أصرُّوا على باطلهم، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمراً كان مفعولاَ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: ابتليناهم بالمصائب والشدائد... فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة، بل استمروا على ضلالهم وغيهم...
عن يزيد -يعني: النحوي- عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العلهز -يعني: الوبر والدم- فأنزل الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل، عن علي بن الحسين، عن أبيه، به. وأصل هذا الحديث في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال:"اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أتبع هذا الدليل تأبيداً له ما يدل على أنهم لا يسلكون الصراط إلا اضطراراً فقال: {ولقد أخذناهم} أي بما لنا من العظمة {بالعذاب} أي بمطلقه كإظهار حزب الله عليهم في بدر وغيرها {فما استكانوا} أي خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم {لربهم} المحسن إليهم عقب المحنة، وحقيقته ما طلبوا أن يكونوا له ليكرموا مقام العبودية من الذل والخضوع والانقياد لأوامره تاركين حظوظ أنفسهم، والحاصل أنه لما ضربهم بالعذاب كان من حقهم أن يكونوا له لا لشركائهم، فما عملوا بمقتضى ذلك إيجاداً ولا طلباً {وما يتضرعون} أي يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة، بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو إلا إذا التقت حلقتا البطان، ولم يبق لهم نوع اختيار، بدليل ما أرشد إليه حرف الغاية من أن التقدير: بل استمروا على عتوهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس، القاسية قلوبهم، الغافلين عن الله، المكذبين بالآخرة، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله [صلى الله عليه وسلم].
والاستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله، والشعور بأنه الملجأ والملاذ. والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان، واستيقظ وتذكر، وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل، وأفاد من المحنة و انتفع بالبلاء. فأما حين يسدر في غيه، ويعمه في ضلاله، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح، وهو متروك لعذاب الآخرة، الذي يفاجئه، فيسقط في يده، ويبلس ويحتار، وييأس من الخلاص..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استدلال على مضمون قوله {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} بسابق إصرارهم على الشرك والإعراض عن الالتجاء إلى الله وعدم الاتعاظ بأن ما حل بهم من العذاب هو جزاء شركهم.
والجملة المتقدمة خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعلم صدقه فلم يكن بحاجة إلى الاستظهار عليه. ولكنه لما كان متعلقاً بالمشركين وكان بحيث يبلغ أسماعهم وهم لا يؤمنون بأنه كلام من لا شك في صدقه، كان المقام محفوفاً بما يقتضي الاستدلال عليهم بشواهد أحوالهم فيما مضى؛ ولذلك وقع قبله {فذرْهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54]، ووقع بعده {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون} [المؤمنون: 84].
والتعريف في قوله {بالعذاب} للعهد، أي بالعذاب المذكور آنفاً في قوله: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} [المؤمنون: 64] الخ. ومصبّ الحال هو ما عطف على جملتها من قوله {فما استكانوا لربهم}، فلا تتوهمنّ أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفاً مستنداً إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها. وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان (13 15) {أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه} إلى قوله {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون} والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجؤار دون التوبة والاستغفار.
وقيل: هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفاً فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر.
والاستكانة: مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له، فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته...
والتعبير بالمضارع في {يتضرعون} لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم. والتضرع: الدعاء بتذلل.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]
إشارة على أن الشأن في المكذبين الضالين، الفارغة قلوبهم من الإيمان واليقين، ان يكونوا مصرين على الطغيان والضلال، غارقين في أوحال أودية العناد والخبال، فلا نعمة الله عليهم ورحمته بهم، إن كشف عنهم الضر، تردهم إلى الصواب، ولا مقدمات المحن والبلايا إن ابتلاهم بها تسوقهم على خشيته والضراعة إليه، لينقذهم من العذاب.
استكان فلان لا تقال إلا لمن كان متحركا حركة شريرة، ثم هدأ وسكن، نقول: فلان (انكن) أو استكان وأصلها (كون) فالمعنى: طلب وجودا جديدا غير الوجود الذي كان عليه، أو حالا غير الحال الذي كان عليه أولا...
ومعنى {فما استكانوا لربهم} أن خضوعهم واستكانتهم لم تكن لأنفسهم ولا للناس، إنما استكانة لله بأخذ أوامره بمنتهى الخضوع وبمنتهى الطاعة، لكنهم ما فعلوا وما استكانوا، لا في حال الرحمة وكشف الضر، ولا في حال الأخذ والعذاب، وكان عليهم أن يعلموا أن الله غير حاله معهم، ومقتضى ذلك أن يغيروا هم أيضا حالهم مع الله، فيستكينوا لربهم ويخضعوا لأوامره. {وما يتضرعون} الضراعة: هي الدعاء والذلة والخضوع لمن أخذ بيدك في شيء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... وتعني هذه الآية أنّ المشركين لم يتخلّوا عن غرورهم وعنادهم وتكبّرهم، ولم يستسلموا للحقّ حتّى وهم يواجهون أشدّ النكبات عصفاً بهم. وإذا ما فسّر التضرّع في الرّوايات بأنّه رفع اليدين نحو السّماء للدعاء، فهو أحد مصاديق هذا المعنى الواسع.