قوله تعالى : { وجعل فيها } أي : في الأرض ، { رواسي } جبالاً ثوابت ، { من فوقها } من فوق الأرض ، { وبارك فيها } أي : في الأرض ، بما خلق فيها من البحار والأنهار والأشجار والثمار ، { وقدر فيها أقواتها } قال الحسن ومقاتل : قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم . وقال عكرمة والضحاك : قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد . قال الكلبي : قدر الخبز لأهل قطر ، والثمر لأهل قطر ، والذرة لأهل قطر ، والسمك لأهل قطر ، وكذلك أقواتها . { في أربعة أيام } يريد خلق ما في الأرض ، وقدر الأقوات في يومين يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام ، رد الآخر على الأول في الذكر ، كما تقول : تزوجت أمس امرأة واليوم ثنتين ، وإحداهما هي التي تزوجتها بالأمس ، { سواءً للسائلين } قرأ أبو جعفر { سواء } رفع على الابتداء ، أي : هي سواء ، وقرأ يعقوب بالجر على نعت قوله : في أربعة أيام ، وقرأ الآخرون { سواء } نصب على المصدر استوت استواءً ، ومعناه سواء للسائلين عن ذلك . قال قتادة والسدي : من سأل عنه فهكذا الأمر سواء لا زيادة ولا نقصان جواباً لمن سأل : في كم خلقت الأرض والأقوات ؟
( وجعل فيها رواسي من فوقها ) . . وكثيراً ما يرد تسمية الجبال( رواسي )وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي ( أن تميد بكم )أي إنها هي راسية ، وهي ترسي الأرض ، وتحفظ توازنها فلا تميد . . ولقد غبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة ! ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن : إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق ، لا تستند إلى شيء . . ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرة أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض أو تسقط في أعماق الفضاء ! فليطمئن . فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ! وليطمئن فإن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز !
ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها( رواسي )وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد . ولعلها - كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال - تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد .
" إن كل حدث يحدث في الأرض ، في سطحها أو فيما دون سطحها ، يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان يؤثر في سرعة دورانها . فليس المد والجزر هو العامل الوحيد في ذلك . [ أي في بطء سرعة الأرض كما قال قبل هذه الفقرة ] حتى ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية في الأرض إلى ناحية يؤثر في سرعة الدوران . وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران . وسقوط في قاع البحار ، أو بروز في سطح الأرض هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران . . ومما يؤثر في سرعة هذا الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما . و لو انكماشاً أو تمدداً طفيفاً لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام "
فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد ، لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة : ( أن تميد بكم )كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً .
( وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ) . . وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها . . فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة ، فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا . .
وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء . وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع . وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار . . وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات .
وهناك هواء . ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا . . .
" إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر . وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء . وتلف الصخر والماء جميعاً طبقة من هواء . وهي طبقة من غاز سميكة . كالبحر ، لها أعماق . ونحن - بني الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، نعيش في هذه الأعماق ، هانئين بالذي فيها .
" فمن الهواء نستمد أنفاسنا ، من أكسجينه . ومن الهواء يبني النبات جسمه ، من كربونه ، بل من أكسيد كربونه ، ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون . يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا . ونحن نأكل النبات . ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات . ومن كليهما نبني أجسامنا . بقي من غازات الهواء النتروجين ، أي الأزوت ، فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا . وبقي بخار الماء وهذا لترطيب الهواء . وبقيت طائفة من غازات أخرى ، توجد فيه بمقادير قليلة هي - في غير ترتيب - الأرجون ، والهيليوم ، والنيون ، وغيرها . ثم الإدروجين ، وهذه تخلفت - على الأكثر - في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى ؛ .
والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا - والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون - كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو فى جوها سواء . وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو ? إنه مركب من الكربون والايدروجين والاكسجين . والماء علمنا تركيبه من الادروجين والاكسجين . . وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة . . إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعه فيها . .
فهذا كله يشير إلى شيء من البركة وشيء من تقدير الأقوات . . في أربعة أيام . . فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة . . هي أيام الله ، التي لا يعلم مقدارها إلا الله
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيَ أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَآءً لّلسّآئِلِينَ * ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالاً رواسي ، وهي الثوابت في الأرض من فوقها ، يعني : من فوق الأرض على ظهرها .
وقوله : وَبارَكَ فِيها يقول : وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها . وقد ذكر عن السديّ في ذلك ما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وبَارَكَ فِيها قال : أنبت شجرها .
وَقَدّرَ فِيها أقواتها . اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : أرزاقها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَقَدّرَ فِيها أقواتها قال : قدّر فيها أرزاق العباد ، ذلك الأقوات .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتها يقول : أقواتها لأهلها .
وقال آخرون : بل معناه : وقدّر فيها ما يصلحها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن خليد بن دعلج ، عن قتادة ، قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : صلاحها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدّر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها : خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها ، وساكنها من الدوابّ كلها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : جبالها ودوابها وأنهارها وبحارها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدّر فيها أقواتها من المطر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : من المطر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدّر في كلّ بلدة منها ما لم يجعله في الاَخر منها لمعاش بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا أبو محصن ، قال : حدثنا حسين ، عن عكرمة ، في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : اليماني باليمن ، والسابريّ بسابور .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا أبو محصن ، عن حصين ، قال : قال عكرمة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها اليمانية باليمن ، والسابرية بسابور ، وأشباه هذا .
حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت حصينا عن عكرمة في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : في كل أرض قوت لا يصلح في غيرها ، اليماني باليمن ، والسابري بسابور .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : البلد يكون فيه القوت أو الشيء لا يكون لغيره ، ألا ترى أن السابريّ إنما يكون بسابور ، وأن العصب إنما يكون باليمن ونحو ذلك .
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : حدثنا ابن عبد الواحد بن زياد ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : السابريّ بسابور ، والطيالسة من الريّ .
حدثني إسماعيل ، قال : حدثنا أبو النضر صاحب البصري ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن مطرّف ، عن الضحاك في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : السابريّ من سابور ، والطيالسة من الريّ والحبر من اليمن .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها ، وذلك ما يقوتهم من الغذاء ، ويصلحهم من المعاش ، ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها أنه قدّر فيها قوتا دون قوت ، بل عمّ الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات ، ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء ، وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرفّ في البلاد لما خصّ به بعضا دون بعض ، ومما أخرج من الجبال من الجواهر ، ومن البحر من المآكل والحليّ ، ولا قول في ذلك أصحّ مما قال جلّ ثناؤه : قدّر في الأرض أقوات أهلها ، لما وصفنا من العلة .
وقال جلّ ثناؤه : في أرْبَعَةِ أيّامٍ لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فرغ من خلق الأرض وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة أيام ، أوّلهنّ يوم الأحد ، وآخرهنّ يوم الأربعاء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : خلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء .
وقال بعض نحويي البصرة : قال : خلق الأرض في يومين ، ثم قال في أربعة أيام ، لأنه يعني أن هذا مع الأوّل أربعة أيام ، كما تقول : تزوّجت أمس امرأة ، واليوم ثنتين ، وإحداهما التي تزوّجتها أمس .
وقوله : سَوَاءً للسائِلِينَ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضمهم : تأويله : سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض ، وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة ، وقدّر فيها الأقوات بأهلها ، وجده كما أخبر الله أربعة أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سَوَاءً للسّائِلِينَ من سأل عن ذلك وجده ، كما قال الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة سَوَاءً للسّائِلِينَ قال : من سأل فهو كما قال الله .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاء للسّائِلِينَ يقول : من سأل فهكذا الأمر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق ، فإن الله قد قدّر له من الأقوات في الأرض ، على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله سَوَاءً للسّائِلِينَ قال : قدّر ذلك على قدر مسائلهم ، يعلم ذلك أنه لا يكون من مسائلهم شيء إلا شيء قد علمه قبل أن يكون .
واختلفت القراء في قراءة ذلك . فقرأته عامة قراء الأمصار غير أبي جعفر والحسن البصري : سَوَاءً بالنصب . وقرأه أبو جعفر القارىء : «سَوَاءٌ » بالرفع . وقرأ الحسن : «سَوَاءٍ » بالجر .
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراءة الأمصار ، وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه ، ولصحة معناه . وذلك أن معنى الكلام : قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة ، وعلى ما يصلحهم .
وقد ذُكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : «وَقَسّمَ فِيها أقْوَاتَها » .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب سواءً ، فقال بعض نحويي البصرة : من نصبه جعله مصدرا ، كأنه قال : استواء . قال : وقد قُرىء بالجرّ وجعل اسما للمستويات : أي في أربعة أيام تامّة . وقال بعض نحويي الكوفة : من خفض سواء ، جعلها من نعت الأيام ، وإن شئت من نعت الأربعة ، ومن نصبها جعلها متّصلة بالأقوات . قال : وقد تُرفع كأنه ابتداء ، كأنه قال : ذلك سَوَاءً للسّائِلِينَ يقول : لمن أراد علمه .
والصواب من القول في ذلك أن يكون نصبه إذا نصب حالاً من الأقوات ، إذ كانت سواء قد شبهت بالأسماء النكرة ، فقيل : مررت بقوم سواء ، فصارت تتبع النكرات ، وإذا تبعت النكرات انقطعت من المعارف فنصبت ، فقيل : مررت بإخوتك سواء ، وقد يجوز أن يكون إذا لم يدخلها تثنية ولا جمع أن تشبه بالمصادر . وأما إذا رُفعت ، فإنما تُرفع ابتداء بضمير ذلك ونحوه ، وإذا جُرّت فعلى الإتباع للأيام أو للأربعة .
والرواسي : هي الجبال الثوابت ، رسا الجبل إذا ثبت .
وقوله تعالى : { وبارك فيها } أي جعلها منبتة للطيبات والأطعمة ، وجعلها طهوراً إلى غير ذلك من وجوه البركة . وفي قراءة ابن مسعود : «وقسم فيها أقواتها » . وفي مصحف عثمان رضي الله عنه : «وقدر » واختلف الناس في معنى قوله : { أقواتها } فقال السدي : هي أقوات البشر وأرزاقهم ، وأضافها إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها . وقال قتادة : هي أقوات الأرض من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها . وروى ابن عباس رضي الله عنه في هذا المعنى حديثاً مرفوعاً فشبهها بالقوت الذي به قوام الحيوان . وقال مجاهد : أراد { أقواتها } من المطر والمياه . وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضاً : أراد بقوله : { أقواتها } خصائصها التي قسمها في البلاد ، فجعل في اليمن أشياء ليست في غيره ، وكذلك في العراق والشام والأندلس وغيرها من الأقطار ليحتاج بعضها إلى بعض ويتقوت من هذه في هذه الملابس والمطعوم ، وهذا نحو القول الأول ، إلا أنه بوجه أعم منه .
وقوله تعالى : { في أربعة أيام } يريد باليومين الأولين{[10043]} ، وهذا كما تقول : بنيت جدار داري في يوم وأكملت جميعها في يومين ، أي بالأول .
وقرأ الحسن البصري وأبو جعفر وجمهور الناس : «سواءً » بالنصب على الحال ، أي سواء هي وما انقضى فيها . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «سواءٌ » بالرفع ، أي هي سواء . وقرأ الحسن وعيسى وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد : «سواءٍ » بالخفض على نعت الأيام .
واختلف في معنى : { للسائلين } فقال قتادة والسدي معناه : سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال عز وجل . وقال ابن زيد وجماعة معناه : مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبر عنهم ب «السائلين » بمعنى الطالبين ، لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به ، فهم في حكم من سأل هذه الأشياء إذ هم أهل حاجة إليها ، ولفظة { سواء } تجري مجرى عدل وزور في أن ترد على المفرد والمذكر والمؤنث .
عطف على فعل الصلة لا على معمول الفعل ، فجملة { وَجَعَلَ فِيهَا رواسي } الخ صلة ثانية في المعنى ، ولذلك جيء بفعل آخر غير فعل ( خلق ) لأن هذا الجعل تكوين آخر حصل بعد خلق الأرض وهو خلق أجزاء تتصل بها إما من جنسها كالجبال وإما من غير جنسها كالأقوات ولذلك أعقب بقوله : { فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ } بعد قوله : { فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] .
والرواسي : الثوابت ، وهو صفة للجبال لأن الجبال حجارة لا تنتقل بخلاف الرمال والكثبان ، وهي كثيرة في بلاد العرب . وحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه كقوله تعالى : { ومن آياته الجواري في البحر } [ الشورى : 32 ] أي السفن الجواري . وقد تقدم تفسيره عند قوله تعالى : { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } في سورة الأنبياء ( 31 ) .
ووصفُ الرواسي ب { مِن فَوْقِهَا } لاستحضار الصورة الرائعة لمناظر الجبال ، فمنها الجميل المنظر المجلّل بالخضرة أو المكسوّ بالثلوج ، ومنها الرهيب المرأى مثل جبال النار ( البراكين ) ، والجبال المعدنية السود .
و { بارك فيها } جعل فيها البَرَكة . والبَرَكة : الخير النافع ، وفي الأرض خيرات كثيرة فيها رزق الإنسان وماشيتِه ، وفيها التراب والحجارة والمعادن ، وكلها بركات . و { قدَّر } جعل قَدْراً ، أي مقداراً ، قال تعالى : { قد جعل اللَّه لكل شيء قدراً } [ الطلاق : 3 ] . والمقدار : النصاب المحدود بالنوع أو بالكمية ، فمعنى { قدر فيها أقواتها } أنه خلق في الأرض القُوى التي تنشأ منها الأقوات وخلق أصول أجناس الأقوات وأنواعها من الحَبّ للحبوب ، والكَلأ والكمْأة ، والنَّوى للثمار ، والحرارةِ التي يَتأثر بها تولد الحيوان من الدواب والطير ، وما يتولد منه الحيتان ودَوابّ البحار والأنهار .
ومن التقدير : تقدير كل نوع بما يصلح له من الأوقات من حر أو برد أو اعتدال . وأشار إلى ذلك قوله : { واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] ويأتي القول فيه ، وقوله : { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وقوله : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } [ النحل : 80 ] الآية .
وجمع الأقوات مضافاً إلى ضمير الأرض يفيد العموم ، أي جميع أقواتها وعمومُه باعتبار تعدد المقتاتين ، فللدواب أقوات ، وللطير أقوات ، وللوحوش أقوات ، وللزواحف أقوات ، وللحشرات أقوات ، وجُعل للإنسان جميع تلك الأقوات مما استطاب منها كما أفاده قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } ومضى الكلام عليه في سورة البقرة ( 29 ) .
وقوله : { فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ } فذلكة لمجموع مدة خلق الأرض جِرمِها ، وما عليها من رواسي ، وما فيها من القوى ، فدخل في هذه الأربعة الأيام اليوماننِ اللذان في قوله : { فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] فكأنه قيل : في يَومين آخرين فتلك أربعة أيام ، فقوله في { أرْبَعَة أيام } فذلكة ، وعدل عن ذلك إلى ما في نسج الآية لقصد الإِيجاز واعتماداً على ما يأتي بعدُه من قوله : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } [ فصلت : 12 ] ، فلو كان اليومان اللذان قضى فيهما خلق السماوات زائدين على ستة أيام انقضت في خلق الأرض وما عليها لصار مجموع الأيام ثمانية ، وذلك ينافي الإِشارة إلى عِدّة أيام الأسبوع ، فإن اليوم السابع يوم فراغ من التكوين . وحكمة التمديد للخلق أن يقع على صفة كاملة متناسبة .
و { سواء } قرأه الجمهور بالنصب على الحال من { أيام } أي كاملة لا نقص فيها ولا زيادة . وقرأه أبو جعفر مرفوعاً على الابتداء بتقدير : هي سواء . وقرأه يعقوب مجروراً على الوصف ل { أيام .
و{ للسائلين } يتنازعه كل من أفعال { جعل } و { بَارك } و { قَدر } فيكون { للسائلين } جمع سائل بمعنى الطالب للمعرفة ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، أي بيّنا ذلك للسائلين ويجوز أن يكون ل { السائلين } متعلقاً بفعل { قدر فيها أقواتها } فيكون المراد بالسائلين الطالبين للقوت .