ثم أخبر أنه أتى بثلاثة أنواعٍ من الصُّنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك ، فالأول قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } وهذا مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول ، للفصل بينهما بأجنبي ، وهو قوله : «وَتَجْعَلُونَ » فإنه معطوف على قوله : «لتكفرون »{[48552]} كما تقدم .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله : «من فوقها » ولم يقتصر على قوله { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } كما اقتصر على قوله { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } [ المرسلات : 27 ] وقوله { وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ } [ الأنبياء : 31 ] وقوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } [ الرعد : 3 ] .
فالجواب : أنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التَّحتانيَّة هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، ولكنه تعالى قال : خُلِقَتْ هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أنَّ الأرض والجبال أثقالٌ وكلها مفتقرة إلى مُمْسِكٍ وحافظٍ وما ذاك الحافظ المدبِّر إلا الله سبحانه وتعالى{[48553]} .
النوع الثاني : قوله «وَبَارَكَ فِيهَا » أي في الأرض بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد شقَّ الأنهار ، وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار ، وخلق أصناف الحيوانات ، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات .
النوع الثالث : قوله { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } قيل : المعنى وقدر فيها أقوات أهلِها ومعايشهم ما يصلحهم وقال محمد بن كعب : قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان . وقال مجاهد : وقدر فيها أقواتها من المطر . وعلى هذا فالأقوات للأرض لا للسكان ، والمعنى أن الله عزَّ وجلَّ قدر لكل أرض حظَّها من المطر{[48554]} . وقيل{[48555]} المراد من إضافة القُوت إلى الأرض كونها متولدة في تلك الأرض وحادثة فيها ؛ لأن النحاة قالوا في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة ، وإلى محله أخرى ، فقوله «وقدر فيها أقواتها » أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها ، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة بمعنى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في ذلك البلد وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال .
قوله : { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } تقديره : في تَمَام أَرْبَعَةِ أيام باليَوْمَيْنِ المتقدمين . قال الزجاج : في تتمَّة أربعة أيام{[48556]} ، يريد بالتتمة اليومين . وقال الزمخشري : في أربعة أيام فلذلك{[48557]} المدة خلق الله الأرض وما فيها كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستويةً بلا زيادة ولا نُقصانٍ .
قال شهاب الدين : وهذا كقولك : بَنَيْتُ بيتي في يوم وأكملته في يومين أي بالأول{[48558]} . وقال أبو البقاء : أي في تمام أربعة أيام ، ولولا هذا التقدير لكانت الأيام ثمانيةً يومان في الأول ، وهو قوله : { خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } ويومانِ في الآخر وهو قوله { فقضاهن سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } وأربعةُ في الوَسَطِ وهو قوله { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ }{[48559]} .
فإن قيل : إنه تعالى لما ذكر خلق الأرض في يومين ، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعدَ عن الشُّبهة وعن الغلط فَلِمَ تَرَك التصريح وذكر الكلام المجمل ؟
فالجواب : أن قوله «في أربعة أيام سواء » فيه فائدة زائدة على ما إذا قال : خلقت هذه الثلاثة في يومين ؛ لأنه لو قال : خلقت هذه الأشياء في يومين لم يُفِدْ هذا الكلام كون اليومين مُستغرقين بتلك الأعمال ؛ لأنه قد يقال : عملتُ هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل ، أمَّا لما ذكر خلق الأرض ، وخلق هذه الأشياء ثم قال : في أربعة أيام سواء دلَّ على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقةً في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نُقصانٍ{[48560]} .
قوله : «سواء » العامة عل النصب ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر ، أي استوت قاله مكي{[48561]} وأبو البقاء{[48562]} .
الثاني : أنه حال من «ها » في أقواتها ، أو من «ها » في «فيها » العائدة على الأرض أو من الأرض قاله أبو البقاء{[48563]} وفيه نظر لأن المعنى إنما هو وصف الأيام بأنها سواء ، لا وصف الأرض بذلك وعلى هذا جاء التفسير{[48564]} .
ويدل على ذلك قراءة سَواءٍ بالجر صفة للمضاف ، أو المضاف إليه ، وقال قتادةُ والسُّدي سواء معناها سواء لمن سِأل عن الأمر ، واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال تعالى . إلا أن ابن زيد وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء فإنهم قالوا معناه مستوٍ مهيَّأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبر بالسائلين عن الطالبين{[48565]} . وقرأ زيدُ بنُ علي والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وعيسى ويعقوبُ وعمرُو بن عُبيدٍ : سَواءٍ بالخفض{[48566]} على ما تقدم{[48567]} . وأبو جعفر بالرفع{[48568]} وفيه وجهان :
أحدهما : أنه على خبر ابتداء مضمر ، أي هي سواء ، لا يزيدُ ولا يَنقُصُ ، وقال مكِّي : هو مرفوع بالابتداء وخبره للسائلين{[48569]} ؛ وفيه نظر ، من حيث الابتداء بنكرة من غير مُسوَّغ . ثم قال : بمعنى مستويات لمن سأل فقال : في كَمْ خلقت{[48570]} ؟ وقيل : للسائلين لجميع السائلين لأنهم يسألون الرزق وغيره من عند الله تعالى{[48571]} .
قوله «للسائلين » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق بسَوَاء بمعنى مستويات للسائلين{[48572]} .
الثاني : أنه متعلق بقدَّر ، أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها{[48573]} المحتاجين المقتاتين .
الثالث : أن يتعلق بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها{[48574]} ؟ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.