فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ} (10)

{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } أي جبالا ثوابت ، معطوف على خلق وقيل مستأنفة لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي ، والأول أولى ، لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها ، فكانت بمنزلة التأكيد ، ومعنى : { مِنْ فَوْقِهَا } أنها مرتفعة عليها لأنها من أجزاء الأرض ، وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها وإنما اختار إرساءها فوق الأرض لتكون منافع الجبال ظاهرة لطالبيها ، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال كلها مفتقرة إلى ممسك ، وهو الله العزيز المتعال ، القادر المختار .

{ وَبَارَكَ فِيهَا } أي جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها من المنافع للعباد قال السدي : أنبت فيها شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } قال الحسن وعكرمة والضحاك : قدر فيها أرزاق أهلها ، وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع ، جعل في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد وقيل قدر البُرَّ لأهل قطر من الأرض والتمر لأهل قطر آخر ، وكذلك سائر الأقوات .

قيل : إن الزرع أكثر الحرف بركة لأن الله وضع الأوقات في الأرض ، وقال ابن عباس أي شق الأنهار ، وغرس الأشجار ، ووضع الجبال ، وأجرى البحار ، وجعل في هذه ما ليس في هذه وفي هذه ما ليس في هذه ، وقال قتادة ومجاهد : خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها .

{ فِي } تتمة { أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } أي في يوم الثلاثاء والأربعاء باليومين المتقدمين ، قاله الزجاج وغيره ، قال ابن الأنباري : ومثاله قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما ، أي تتمة خمسة عشر يوما ، فيكون المعنى : إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان ولولا هذا التقدير لكانت الأيام ثمانية يومان في الأول وهو قوله { خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } ويومان في الأخير وهو قوله الآتي : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } وأربعة في الوسط .

وقال أبو البقاء : ولعل زيادة مدة الأرض على مدة السماء جريا على ما يتعارف من أن بناء السقف أخف من بناء البيت ، وقيل : للتنبيه على أن الأرض هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين وكثرة المنافع ، وقيل : لما فيها من الابتلاء بالمعاصي ، والمجاهدات والمجادلات والمعالجات .

عن ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن خلق السماوات والأرض ، فقال ( خلق الله الأرض في يومين الأحد والاثنين ، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق الأربعاء الشجر والحجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام فقال تعالى : قل أئنكم لتكفرون إلى قوله للسائلين ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم ، والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه ، فخلق من أول ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات ، وفي الثانية ألقى فيها من كل شيء مما ينتفع به ، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود ثم ماذا يا محمد ؟ قال : ثم استوى على العرش ، قالوا قد أصبت لو أتممت . قالوا ثم استراح ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، غضبا شديدا فنزل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ، فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } أخرجه ابن جرير والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات .

ولكن في حديث مسلم عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بيدي فقال : ( خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء وخلق الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق فيما بين العصر إلى الليل ) . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أيضا قال : ( إن الله خلق يوما فسماه الأحد ثانيا فسماه الاثنين ، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ، ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء ثم خلق خامسا فسماه الخميس ، وذكر نحو ما تقدم ) . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إن الله فرغ من خلقه في ستة أيام ) وذكر نحو ما تقدم .

وانتصاب { سَوَاءً } على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة للأيام ، أي استوت الأربعة سواء ، بمعنى استواء ، ويجوز أن يكون منتصبا على الحال من الأرض أو من الضمائر الراجعة إليها قرأ الجمهور بنصب سواء ، وقرأ زيد بن علي والحسن وغيرهما بخفضه على أنه صفة للأيام وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، قال الحسن : المعنى في أربعة أيام مستوية تامة لا تزيد ولا تنقص ، وقوله :

{ لِلسَّائِلِينَ } متعلق بسواء أي مستويان للسائلين أو بمحذوف كأنه قيل هذا الحصر للسائلين في كم يوم خلقت الأرض وما فيها ؟ أو متعلق بقدر أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين المحتاجين إليها قال الفراء : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام ، واختار هذا ابن جرير .