الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ} (10)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وجعل فيها رواسي من فوقها} يعني جعل الجبل من فوق الأرض أوتادا للأرض؛ لئلا تزول بمن عليها.

{وبارك فيها} يعني في الأرض، والبركة الزرع والثمار والنبت وغيره.

{وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام}: وقسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم.

{سواء للسائلين} يعني عدلا لمن يسأل الرزق من السائلين.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالاً رواسي، وهي الثوابت في الأرض من فوقها، يعني: من فوق الأرض على ظهرها.

وقوله:"وَبارَكَ فِيها" يقول: وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها...

"وَقَدّرَ فِيها أقواتها"، اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم...

وقال آخرون: بل معناه: وقدّر فيها ما يصلحها...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدّر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدّر فيها أقواتها من المطر...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدّر في كلّ بلدة منها ما لم يجعله في الآخر منها لمعاش بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة...

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها، وذلك ما يقوتهم من الغذاء، ويصلحهم من المعاش، ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله: "وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها "أنه قدّر فيها قوتا دون قوت، بل عمّ الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات، ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء، وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرفّ في البلاد لما خصّ به بعضا دون بعض، ومما أخرج من الجبال من الجواهر، ومن البحر من المآكل والحليّ، ولا قول في ذلك أصحّ مما قال جلّ ثناؤه: قدّر في الأرض أقوات أهلها، لما وصفنا من العلة.

وقال جلّ ثناؤه: "في أرْبَعَةِ أيّامٍ" لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فرغ من خلق الأرض وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة أيام...

وقوله: "سَوَاءً للسائِلِينَ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛

فقال بعضمهم: تأويله: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض، وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة، وقدّر فيها الأقوات بأهلها، وجده كما أخبر الله أربعة أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن منه...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق، فإن الله قد قدّر له من الأقوات في الأرض، على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}: وجعلها مختلفةً في الطَّعْمِ والصورةِ والمقدار، وأرزاقُ القلوبِ والسرائر.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: ما معنى قوله: {مِنْ فَوْقِهَا} وهل اقتصر على قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِي}؟

قلت: لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها، أو مركوزة فيها كالمسامير: لمنعت من الميدان أيضاً، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض، لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها،حاضرة محصليها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه، وهو ممسكها عزّ وعلا بقدرته.

{وبارك فِيهَا} وأكثر خيرها وأنماه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقا للأرض في يومين، أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك:

فالأول: قوله {وجعل فيها رواسي من فوقها}.

والنوع الثاني: {وبارك فيها} والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان، وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات.

والنوع الثالث: قوله تعالى: {وقدر فيها أقواتها} وفيه أقوال:

الأول: قال محمد بن كعب: قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان.

والقول الثاني: قال مجاهد: وقدر فيها أقواتها من المطر، وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان، والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر.

والقول الثالث: أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض، وحادثة فيها؛ لأن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى، فقوله {وقدر فيها أقواتها} أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها؛ وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدنا لنوع آخر من الأشياء المطلوبة، حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سببا لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال، ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة؛ لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال: {وقدر فيها أقواتها} وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعينا...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{في أربعة أيام} هذا العدد عند ضم اليومين الماضيين إلى يومي الأقوات وهما الثلاثاء والأربعاء، أو يكون المعنى في تتمته أربعة أيام، ولا يحمل على الظاهر ليكون ستة؛ لأنه سيأتي للسماوات يومان فكانت تكون ثمانية، فتعارض آية {الم السجدة} {لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} وفصل مقدار ما خلقها فيه ومقدار ما خص الأقوات والمنافع لإحاطة العلم بأنه يخص كل أمر من الأمرين يومان، ونص على الأولين ليكون ذلك أدل على القدرة فيحسن موقع النعي عليهم بما فصل به الآيتين من اتخاذ الأنداد؛ وإنما كان أدل على القدرة لأنه إيجاد ذوات محسوسة من العدم قائمة بأنفسها بخلاف البركة، وتقدير الأقوات فإنه أمر لا يقوم بنفسه، فلم يفرد يوميه بالذكر، بل جعلهما تابعين كما أن ما قدر فيهما تابع، ولم يفعل ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه؛ لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختيار، ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة السماء مع كونها أصغر من السماء؛ دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين، فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر؛ لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها، والاعتناء بشأنهم وشأنها، وزادت أيضاً بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم -كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور، وليعلم أيضاً بخلق السماء التي هي أكبر جرماً وأتقن جسماً وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح، بل لحكم تعجز عن حملها العقول، ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً على السكينة والبعد من العجلة.

ولما كان لفظ {سواء} الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو {إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} قال تعالى مزيلاً لما أوهمه قوله: {أربعة أيام} من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة، ناصباً على المصدر: {سواء} أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء.

{للسائلين} أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها، ولا يتأتى السواء إلا بين يومين ويومين لا بين يومين وأربعة، لا يزيد أحد الشقين من اليومين على اليومين الآخرين ذرة بعلم محيط وقدرة شاملة، وليس ذلك كأيام الدنيا لا بد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص، وقراءة يعقوب بجر "سواء "معينة لأن تكون نعتاً ل "أربعة" وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة، قال ابن برجان: ألا ترى الأمر ينزل إلى السماء أولاً في إنزال الماء، فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم- أمر قويم وحكمة شائعة آية ذلك قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة. الشتاء والربيع والصيف والخريف، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فوائد وعجائب، قال: وقوله "للسائلين" تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها بإحكام ذلك كله وتوابعه -انتهى.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(رواسي) لعلها تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد...

(وبارك فيها وقدر فيها أقواتها).. وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها.. فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة، فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا.. وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء، وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع. وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار.. وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات. وهناك هواء. ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا... "إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر. وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء. وتلف الصخر والماء جميعاً طبقة من هواء. وهي طبقة من غاز سميكة. كالبحر، لها أعماق. ونحن -بني الإنسان، والحيوان، والنبات، نعيش في هذه الأعماق، هانئين بالذي فيها. "فمن الهواء نستمد أنفاسنا، من أكسجينه. ومن الهواء يبني النبات جسمه، من كربونه، بل من أكسيد كربونه، ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون. يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا. ونحن نأكل النبات. ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات. ومن كليهما نبني أجسامنا. بقي من غازات الهواء النتروجين، أي الأزوت، فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا. وبقي بخار الماء وهذا لترطيب الهواء. وبقيت طائفة من غازات أخرى، توجد فيه بمقادير قليلة هي- في غير ترتيب -الأرجون، والهيليوم، والنيون، وغيرها. ثم الإدروجين، وهذه تخلفت- على الأكثر -في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى؛ . والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا- والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون -كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو في جوها سواء. وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو؟ إنه مركب من الكربون والايدروجين والاكسجين. والماء علمنا تركيبه من الإدروجين والاكسجين.. وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة.. إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعه فيها.. فهذا كله يشير إلى شيء من البركة وشيء من تقدير الأقوات.. في أربعة أيام.. فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة.. هي أيام الله، التي لا يعلم مقدارها إلا الله...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على فعل الصلة لا على معمول الفعل، فجملة {وَجَعَلَ فِيهَا رواسي} الخ صلة ثانية في المعنى، ولذلك جيء بفعل آخر غير فعل (خلق) لأن هذا الجعل تكوين آخر حصل بعد خلق الأرض وهو خلق أجزاء تتصل بها إما من جنسها كالجبال وإما من غير جنسها كالأقوات ولذلك أعقب بقوله: {فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ} بعد قوله: {فِي يَوْمَيْنِ}.

و {بارك فيها} جعل فيها البَرَكة. والبَرَكة: الخير النافع.

و {قدَّر} جعل قَدْراً، أي مقداراً، والمقدار: النصاب المحدود بالنوع أو بالكمية، فمعنى {قدر فيها أقواتها} أنه خلق في الأرض القُوى التي تنشأ منها الأقوات وخلق أصول أجناس الأقوات وأنواعها من الحَبّ للحبوب، والكَلأ والكمْأة، والنَّوى للثمار، والحرارةِ التي يَتأثر بها تولد الحيوان من الدواب والطير، وما يتولد منه الحيتان ودَوابّ البحار والأنهار.

ومن التقدير: تقدير كل نوع بما يصلح له من الأوقات من حر أو برد أو اعتدال.

وجمع الأقوات مضافاً إلى ضمير الأرض يفيد العموم، أي جميع أقواتها وعمومُه باعتبار تعدد المقتاتين، فللدواب أقوات، وللطير أقوات...، وجُعل للإنسان جميع تلك الأقوات مما استطاب منها كما أفاده قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}.

{فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ} وحكمة التمديد للخلق أن يقع على صفة كاملة متناسبة.