السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ} (10)

ولما ذكر تعالى ما هم به مقرون من إبداعها أتبعه بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك : فالأول : قوله تعالى : { وجعل فيها رواسي } أي : جبالاً ثوابت ، وهو مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بينهما بأجنبي وهو قوله تعالى : { وتجعلون } فإنه معطوف على لتكفرون كما مر ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : { من فوقها } ولم يقتصر على قوله : { وجعل فيها رواسي } كما اقتصر على قوله تعالى : { وجعلنا فيها رواسي شامخات } ( المرسلات : 27 ) وقوله تعالى : { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } ( النحل : 15 ) وقوله تعالى : { وجعل فيها رواسي } ؟ أجيب : بأنه تعالى لو قال وجعل لها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، ولكنه تعالى قال : جعلت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال الثقال على أثقال ، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله تعالى .

ولما هيأ الأرض لما يراد منها ذكر ما أودعها ، وهو النوع الثاني : بقوله تعالى : { وبارك فيها } أي : بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك ، وقال ابن عباس : يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الحيوانات . النوع الثالث : قوله تعالى : { وقدر فيها أقواتها } أي : أقوات أهلها بأن عيّن لكل نوع ما يصلحه ويغني به ، وقال محمد بن كعب : قدر الأقوات قبل أن يخلق الخلق والأبدان أي : أقواتاً تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها ، فأضاف القوت إلى الأرض لكونه متولداً من تلك الأرض حادثاً فيها لأن النحاة قالوا : يكفي في جنس الإضافة أدنى سبب ، فالشيء يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى ، أي : قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدة لنوع من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس ، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال لتنتظم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض ، فكان جميع ما تقدم من إبداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها دفعة واحدة على مقدار لا يتعداه ومنهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه وقدره فأمضاه لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً ، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه ، وفي الأرض أضعاف كفايته .

ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها . فقال تعالى : { في أربعة أيام } أي : مع اليومين الماضيين كقولك بنيت بيتي في يوم وأكملته في يومين أي : بالأول ، وقال أبو البقاء : في تمام أربعة أيام ولولا هذا التقدير لكانت ثمانية ، يومان في الأول وهو قوله تعالى { خلق الأرض في يومين } ويومان في الآخر وهو قوله تعالى : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } وأربعة في الوسط وهو قوله تعالى : { في أربعة أيام } ، فإن قيل : إنه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط فلم ترك التصريح بذكر الكلام المجمل ؟ أجيب : بأن قوله تعالى في : { أربعة أيام } { سواء } أي : استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص فيه فائدة زائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين لأنه لو قال تعالى خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كون اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال عملت هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قال : { في أربعة أيام سواء } دل على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان .

ولم يفعل تعالى ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختبار ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم ، وجعل مدة خلقها ضعف مدة خلق السماوات مع كونها أصغر من السماوات دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين الإنس والجن ، فزادت لما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها والاعتناء بشأنهم وشأنها وزادت أيضاً لما فيها من الابتلاء بالمعاصي والمجاهدات والمجادلات والمعالجات كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في القدرة من المقدور وعجائب الأمور .

قال البقاعي : ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت ، تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً للسكينة والبعد عن العجلة ، وقوله تعالى : { للسائلين } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه متعلق بسواء بمعنى مستويات للسائلين ، ثانيها : أنه متعلق بقدر أي : قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين ، ثالثها : أنه متعلق بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها .