قوله تعالى : { قال عيسى ابن مريم } . عند ذلك .
قوله تعالى : { اللهم ربنا أنزل علينا مائدةً من السماء } ، وقيل : إنه اغتسل ، ولبس المسح ، وصلى ركعتين ، وطأطأ رأسه ، وغض بصره ، وبكى ، ثم قال : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء .
قوله تعالى : { تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا } ، أي : عائدة من الله علينا حجة ، وبرهاناً ، والعيد : يوم السرور ، سمي به للعود من الترح إلى الفرح ، وهو اسم لما اعتدته ويعود إليك ، وسمي يوم الفطر والأضحى عيدا لأنهما يعودان في كل سنة ، قال السدي : معناه : نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً لأولنا ، وآخرنا ، أي : نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال سفيان : نصلي فيه ، قوله : { لأولنا } أي : لأهل زماننا { وآخرنا } ، أي : لمن يجيء بعدنا ، وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .
فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك ، وعلم مقصودهم ، أجابهم إلى طلبهم في ذلك ، فقال : { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ } أي : يكون وقت نزولها عيدا وموسما ، يتذكر به هذه الآية العظيمة ، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات وتكرر السنين .
كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لآياته ، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة ، وفضله وإحسانه عليهم . { وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ } أي : اجعلها لنا رزقا ، فسأل عيسى عليه السلام نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين ، مصلحة الدين بأن تكون آية باقية ، ومصلحة الدنيا ، وهي أن تكون رزقا .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ } . .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم أنه أجاب القوم إلى ما سألوه من مسألة ربه مائدة تنزل عليهم من السماء .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " تَكُونُ لَنا عِيدا لأَوّلِنا وآخِرِنا " فقال بعضهم : معناه : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : " تَكُونُ لَنَا عِيدا لأَوّلِنا وآخِرِنا " يقول : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " تَكُونُ لَنا عِيدا لأوّلِنا وآخِرِنا " قال : أرادوا أن تكون لعقبهم من بعدهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدةً مِنَ السّماءِ تَكُونُ لَنا عِيدا لأَوّلِنا " قال : الذين هم أحياء منهم يومئذ وآخِرِنا مَن بعدهم منهم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : قال سفيان : تَكُونُ لَنا عِيدا ، قالوا : نصلي فيه نزلت مرّتين .
وقال آخرون : معناه : نأكل منها جميعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ليث ، عن عقيل ، عن ابن عباس ، أنه قال : أكل منها يعني من المائدة حين وضعت بين أيديهم آخر الناس كما أكل منها أوّلهم .
وقال آخرون : معنى قوله عِيدا عائدة من الله تعالى علينا حجة وبرهانا .
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : معناه : تكون لنا عيدا ، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه ونصلي له فيه ، كما يعيّد الناس في أعيادهم . لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في العيد ما ذكرنا دون القول الذي قاله من قال معناه : عائدة من الله علينا وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به أولى من توجيهه إلى المجهول منه ما وجد إليه السبيل .
وأما قوله : " لأَوّلِنا وآخِرِنا " فإن الأولى من تأويله بالصواب قول من قال : تأويله للأحياء منا اليوم ومن يجيء بعدنا منا للعلة التي ذكرناها في قوله : " تَكُونُ لَنا عِيدا " لأن ذلك هو الأغلب من معناه .
وأما قوله : " وآيَةً مِنْكَ " فإن معناه : وعلامة وحجة منك يا ربّ على عبادك في وحدانيتك ، وفي صدق على أني رسول إليهم بما أرسلتني به . " وَارْزُقْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ " : وأعطنا من عطائك ، فإنك يا ربّ خير من يعطي وأجود من تفضّل ، لأنه لا يدخل عطاءه منّ ولا نكد .
وقد اختلف أهل التأويل في المائدة ، هل أنزلت عليهم أم لا ؟ وما كانت ؟ فقال بعضهم : نزلت وكانت حوتا وطعاما ، فأكل القوم منها ، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداث منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : نزلت المائدة خبزا وسمكا .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا أبي ، عن الفضيل ، عن عطية ، قال : المائدة سمكة فيها طعم كلّ طعام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن فضيل ، عن مسروق ، عن عطية ، قال : المائدة : سمك فيه من طعم كلّ طعام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الرحمن ، قال : نزلت المائدة خبزا وسمكا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاءوا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا المنذر بن النعمان ، أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : " أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدةً مِنَ السّماءِ تَكُونُ لَنا عِيدا " قال : نزل عليهم قرصَة من شعير وأحوات . قال الحسن : قال أبو بكر : فحدّثت به عبد الصمد بن معقل ، فقال : سمعت وهبا وقيل له : وما كان ذلك يغني عنهم ؟ فقال : لا شيء ولكن الله حثا بين أضعافهنّ البركة ، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ويجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون ، حتى أكلوا جميعهم وأفضلوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، قال : هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : " مائدَةً مِنَ السّماءِ " قال : مائدة عليها طعام أبَوْها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا فأبوا أن تنزل عليهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن إسحاق بن عبد الله : أن المائدة نزلت على عيسى بن مريم ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، يأكلون منها ما شاءوا . قال : فسرق بعضهم منها ، وقال : لعلها لا تنزل غدا فرفعت .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن سماك بن حرب ، عن رجل من بني عجل قال : صليت إلى جنب عمار بن ياسر ، فلما فرغ ، قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال : فقلت لا . قال : إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد ، قال : فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا أو تخونوا أو ترفعوا ، فإن فعلتم فإني أعذّبكم عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين . قال : فما تمّ يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا ، فعُذّبوا عذابا لم يعذّبه أحدا من العالمين . وإنكم معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء ، فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه ، وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهرون على العرب ، ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة ، وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذّبكم عذابا أليما .
حدثنا الحسن بن قزعة البصريّ ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن حلاس بن عمرو ، عن عمار بن ياسر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَزَلَتِ المَائدَةُ خُبْزا ولَحْما ، وأُمِرُوا أنْ لا يَخُونُوا وَلا يَدّخِرُوا وَلا يَرْفَعُوا لِغَد ، فَخانُوا وَادّخَرُوا وَرَفَعُوا ، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنازِيرَ » .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة عن ابن عباس في المائدة ، قال : كانت طعاما ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن عمار ، قال : نزلت المائدة ، وعليها ثمر من ثمر الجنة ، فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدّخروا . قال : فخان القوم وخبأوا وادخروا ، فحوّلهم الله قردة وخنازير .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمر من ثمار الجنة ، وأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدّخروا لغد ، بلاء ابتلاهم الله به ، وكانوا إذا فعلوا شيئا من ذلك أنبأهم به عيسى ، فخان القوم فيه فخبأوا وادّخروا لغد .
وقال آخرون : كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ميسرة ، قال : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل ، اختلفت عليها الأيدي بكلّ طعام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن عطاء ، عن ميسرة وزاذان ، قالا : كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان الثوريّ ، عن عطاء بن السائب ، عن زاذان وميسرة في : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " قالا : رأوا الأيدي تختلف عليها بكلّ شيء إلا اللحم .
وقال آخرون : لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة : ثم اختلف قائلو هذه المقالة فقال بعضهم : إنما هذا مثل ضربه الله تعالى لخلقه نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الايات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : " أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدةً مِنَ السّماءِ " قال : مثل ضرب ، لم ينزل عليهم شيء .
وقال آخرون : إن القوم لما قيل لهم : " فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أعذّبُه أحَدا مِنَ العالَمِينَ " استعْفَوا منها فلم تنزل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول لما قيل لهم : " فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ . . . . " إلى آخر الاية ، قالوا : لا حاجة لنا فيها فلم تنزل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن أنه قال في المائدة : لم تنزل .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : مائدة عليها طعام أبَوْها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبَوْا أن تنزل عليهم .
والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه . وإنما قلنا ذلك للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم غير من انفرد بما ذكرنا عنه . وبعد ، فإن الله تعالى لا يخلف وعده ولا يقع في خبره الخلف ، وقد قال تعالى مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك : " إنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ " ، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره إني منزلها عليكم ، ثم لا ينزلها لأن ذلك منه تعالى خبر ، ولا يكون منه خلاف ما يخبر . ولو جاز أن يقول : إني منزلها عليكم ، ثم لا ينزلها عليهم ، جاز أن يقول : " فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِن العالَمِينَ " ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذّبه ، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة ، وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى بذلك .
وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة ، فأن يقال : كان عليها مأكول ، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا ، وجائزٌ أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة ، وغير نافع العلم به ولا ضارّ الجهل به ، إذا أقرّ تالي الاية بظاهر ما احتمله التنزيلُ .
إن كان قوله : { إذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء } [ المائدة : 112 ] من تمام الكلام الذي يلقيه الله على عيسى يوم يجمع الله الرسل كانت هذه الجملة وهي { قال عيسى ابن مريم اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة } الخ . . . معترضة بين جملة { وإذ أوحيت إلى الحواريّين } [ المائدة : 111 ] وجملة { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس } [ المائدة : 116 ] الآية .
وإن كان قوله : { إذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل } [ المائدة : 112 ] الآية ابتداء كلام بتقدير فعل اذكر كانت جملة : { قال عيسى ابن مريم اللهم ربّنا } الآية مجاوبة لقول الحواريّين { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك } [ المائدة : 112 ] الآية على طريقة حكاية المحاورات .
وقوله : { اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة } اشتمل على نداءين ، إذ كان قوله : { ربّنا } بتقدير حرفِ النداء . كرّر النداء مبالغة في الضراعة . وليس قوله : { ربّنا } بدلاً ولا بياناً من اسم الجلالة ، لأنّ نداء { اللهمّ } لا يتبع عند جمهور النحاة لأنّه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال . ومن النحاة من أجاز إتْباعه ، وأيّاً ما كان فإنّ اعتباره نداء ثانياً أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى { ربّنا } مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران . وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريّين استعطافاً لله ليجيب دعاءهم .
ومعنى { تكون لنا عيداً } أي يكون تذكّر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كلّ سنة عيداً ، فإسناد الكون عيداً للمائدة إسناد مجازي ، وإنّما العيد اليوم الموافق ليوم نزولها ، ولذلك قال : { لأوّلنا وآخرنا } ، أي لأوّل أمّة النصرانية وآخرها ، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية .
والعيد اسم ليوم يعود كلّ سنة ، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار . وقد ورد ذكره في كلام العرب . وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم ، قال العجاج :
مثل يوم السباسب في قول النابغة :
يُحَيَّوْنَ بالرّيْحَان يوْمَ السَّبَاسب
وهو عيد الشعانين عند النصارى .
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر عيداً في قوله لأبي بكر لمَّا نهى الجواريَ اللاّء كنّ يغَنِّين عند عائشة « إنّ لكلّ قوم عيداً وهذا عيدنا » وسمّى يوم النحر عيداً في قوله : « شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجّة » .
والعيد مشتقّ من العَوْد ، وهو اسم على زنة فعل ، فجعلت واوه ياء لوقوعها إثر كسرة لازمة . وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس ، لأنّ قياس الجمع أنّه يردّ الأشياء إلى أصولها ، فقياس ، جمعه أعواد لكنَّهم جمعوه على أعياد ، وصغّروه على عُييد ، تفرقة بينه وبين جمع عُودٍ وتصغيره .
وقوله : { لأوّلنا } بدل من الضمير في قوله { لنا } بدلَ بعض من كلّ ، وعطف { وآخرنا } عليه يصيّر الجميع في قوة البدل المطابق . وقد أظهر لام الجرّ في البدل ، وشأن البدل أن لا يظهر فيه العامل الذي عمل في المبدل منه لأنّ كون البدل تابعاً للمبدل منه في الإعراب مناف لذكر العامل الذي عمل في المتبوع ، ولهذا قال النحاة : إنّ البدل على نية تكرار العامل ، أي العامل منوي غير مصرّح به . وقد ذكر الزمخشري في « المفصّل » أنّ عامل البدل قد يصرّح به ، وجعل ذلك دليلاً على أنّه منوي في الغالب ولم يقيّد ذلك بنوع من العوامل ، ومثّله بقوله تعالى : { لجعلنا لمنْ يكفر بالرحمان لبيُوتهم سُقفاً من فضّة } [ الزخرف : 33 ] ، وبقوله في سورة الأعراف ( 75 ) { قال الملأ الذين استكبروا . . للذين استضعفوا لمَنْ آمن منهم } وقال في الكشاف في هذه الآية { لأوّلنا وآخرنا } بدل من { لَنَا } بتكرير العامل . وجوّز البدل أيضاً في آية الزخرف ثم قال : ويجوز أن يكون اللاّمان بمنزلة اللاّمين في قولك : وهبت له ثوباً لقميصه . يريد أن تكون اللام الأولى متعلّقة ب { تكون } والثانية متعلّقة ب { عيدا } .
وقد استقريْتُ ما بلغت إليه من موارد استعماله فتحصّل عندي أنّ العامل الأصيل من فعل وشبهه لا يتكرّر مع البدل ، وأمّا العامل التكميلي لعامل غيره وذلك حرف الجرّ خاصّة فهو الذي ورد تكريره في آيات من القرآن من قوله تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } في سورة الأعراف ( 75 ) ، وآية سورة الزخرف ، وقوله : { ومن النخل من طلعها قنوان دانية } [ الأنعام : 99 ] . ذلك لأنّ حرف الجرّ مكمّل لعمل الفعل الذي يتعلّق هو به لأنّه يعدّي الفعل القاصر إلى مفعوله في المعنى الذي لا يتعدّى إليه بمعنى مصدره ، فحرف الجرّ ليس بعامل قوي ولكنّه مكمّل للعامل المتعلّق هو به .
ثمّ إنّ علينا أن نتطلّب الداعي إلى إظهار حرف الجرّ في البدل في مواقع ظهوره . وقد جعل ابن يعيش في « شرح المفصّل » ذلك للتأكيد قال : « لأن الحرف قد يتكرّر لقصد التأكيد » . وهذا غير مقنع لنا لأنّ التأكيد أيضاً لا بدّ من داع يدعو إليه .
فما أظهر فيه حرف الجرّ من هذه الآيات كان مقتضي إظهاره إمّا قصد تصوير الحالة كما في أكثر الآيات ، وأمّا دفع اللبس ، وذلك في خصوص آية الأعراف لئلاّ يتوهّم السامع أنّ من يتوهّم أنّ « من آمن » من المقول وأنّ « من » استفهام فيظنّ أنّهم يسألون عن تعيين من آمن من القوم ، ومعنى التأكيد حاصل على كلّ حال لأنّه ملازم لإعادة الكلمة . وأمّا ما ليس بعامل فهو الاستفهام وقد التزم ظهور همزة الاستفهام في البدل من اسم استفهام ، نحو : أين تنزل أفي الدار أم في الحائط ، ومنْ ذا أسعيد أم عَلِي .
وهذا العيد الذي ذكر في هذه الآية غير معروف عند النصارى ولكنّهم ذكروا أنّ عيسى عليه السلام أكل مع الحواريّين على مائدة ليلة عيد الفِصح ، وهي الليلة التي يعتقدون أنّه صلب من صباحها . فلعلّ معنى كونها عيداً أنّها صيّرت يوم الفصح عيداً في المسيحية كما كان عيداً في اليهودية ، فيكون ذلك قد صار عيداً باختلاف الاعتبار وإن كان اليوم واحداً لأنّ المسيحيين وفّقوا لأعياد اليهود مناسبات أخرى لائقة بالمسيحية إعفاء على آثار اليهودية .