الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (114)

قوله تعالى : " قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا " الأصل عند سيبويه يا الله ، والميمان بدل من " يا " " ربنا " نداء ثان لا يجيز سيبويه غيره ، ولا يجوز أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه . " أنزل علينا مائدة " المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب : لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل : خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه ، فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة - أنشده الأخفش :

تهدي رؤوس المترفين الأنداد *** إلى أمير المؤمنين الممتَاد

أي المستعطى المسؤول ، فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لأنه يؤكل على المائدة ، كقولهم للمطر سماء . وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم : ماد الشيء إذا مال وتحرك{[6158]} قال الشاعر :

لعلك باكٍ إن تَغَنَّتْ حمامةٌ *** يَمِيدُ بها غُصْنٌ من الأيكِ مائلُ

وقال آخر :

وأقلقني قتل الكناني بعده *** فكادت بي الأرض الفضاءُ تَمِيدُ

ومنه قوله تعالى : " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " {[6159]} [ النحل : 15 ] . وقال أبو عبيدة : مائدة فاعلة بمعنى مفعولة ، مثله " عيشة راضية{[6160]} " [ الحاقة : 21 ] بمعنى مرضية و " ماء دافق{[6161]} " [ الطارق : 6 ] أي مدفوق . قوله تعالى : " تكون لنا عيدا " " تكون " نعت لمائدة وليس بجواب . وقرأ الأعمش " تكن " على الجواب ، والمعنى : يكون يوم نزولها " عيدا لأولنا " أي لأول أمتنا وآخرها فقيل : إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية ؛ فلذلك جعلوا الأحد عيدا والعيد واحد الأعياد ، وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال : للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قاله الجوهري . وقيل : أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو ، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد ، فقيل ليوم الفطر والأضحى : عيدا لأنهما يعودان كل سنة . وقال الخليل : العيد كل يوم يجمع{[6162]} كأنهم عادوا إليه . وقال ابن الأنباري : سمي عيدا للعود في المرح والفرح ، فهو يوم سرور الخلق كلهم ، ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب . وقيل : سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم ، فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ، ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم وقيل : سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد ، وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال : إبل عيدية قال{[6163]} :

عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فيها الدَّنَانِيرُ

وقد تقدم ، وقرأ زيد بن ثابت " لأولانا وأخرانا " على الجمع{[6164]} قال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها{[6165]} أولهم . " وآية منك " يعني دلالة وحجة . " وارزقنا " أي أعطنا . " وأنت خير الرازقين " أي خير من أعطى ورزق لأنك الغني الحميد .


[6158]:في ي: تحرف.
[6159]:راجع ج 10 ص 90.
[6160]:راجع ج 18 ص 270.
[6161]:راجع ج 20 ص 4.
[6162]:في البحر: يجمع الناس لأنهم. الخ. وفي ب و ع و هـ و ي: مجمع.
[6163]:هو رذاذ الكلبي – كما في اللسان- وصدر البيت: ظلت تجوب بها البلدان ناجية
[6164]:صوبت هذه القراءة عن البحر وغيره من كتب التفسير، قال صاحب البحر: وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري "لأولانا وأخرانا" أنثوا على معنى الأمة والجماعة. والذي بالأصول: ج و ك و ب و ي و ز و هـ: "لأولينا وآخرينا".
[6165]:من ك وع.