إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (114)

{ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } لما رأى عليه السلام أن لهم غَرَضاً صحيحاً في ذلك ، وأنهم لا يُقلعون عنه ، أزمعَ على استدعائها واستنزالها ، وأراد أن يُلزِمَهم الحجةَ بكمالها . رُوي أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل ولبس المِسْح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصرَه ثم قال : { اللهم رَبَّنَآ } ربنا ، ناداه سبحانه وتعالى مرتين ، مرةً بوصف الألوهية الجامعةِ لجميع الكمالات ، ومرةً بوصف الربوبية المُنْبئةِ عن التربية ، وإظهاراً لغاية التضرّع ، ومبالغةً في الاستدعاء { أُنزِلَ عَلَيْنَا } تقديمُ الظرف على قوله : { مَائِدَةً } لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقوله : { منَ السماء } متعلق بأنزل أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لمائدة ، أي كائنةً من السماء نازلةً منها . وقوله : { تَكُونُ لَنَا عِيداً } في محل النصب على أنه صفةٌ لمائدة ، واسم تكون ضمير المائدة ، وخبرُها إما عيداً و( لنا ) حال منه ، أو من ضمير ( تكون ) عند من يجوِّز إعمالَها في الحال ، وإما ( لنا ) ، وعيداً حال من الضمير في لنا ، لأنه وقع خبراً فيحمِلُ ضميراً ، أو من ضمير ( تكون ) عند من يرى ذلك ، أي يكون يومُ نزولها عيداً نعظمه ، وإنما أُسند ذلك إلى المائدة لأن شرَفَ اليوم مستعار من شرفها ، وقيل : العيدُ السرورُ العائد ، ولذلك سمِّيَ يومُ العيد عيداً ، وقرئ ( تكن ) بالجزم على جواب الأمر كما في قوله : { فَهَبْ لِي مِن لَدُنكَ وَلِيّاً يَرِثنِي } [ مريم ، الآية 6 ] خلا أن قراءةَ الجزم هناك متواترة وهاهنا من الشواذ { لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا } بدل من ( لنا ) بإعادة العامل ، أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا . رُوي أنها نزلت يوم الأحد ، ولذلك اتخذه النصارى عيداً ، وقيل : للرؤساء منا والأتباع ، وقيل : يأكل منها أولُنا وآخرُنا ، وقرئ ( لأُولانا وأُخْرانا ) بمعنى الأمة والطائفة { وَآيَةً } عطف على عيداً { مِنكَ } متعلق بمحذوف وهو صفة لآية ، أي كائنةً منك دالةً على كمال قدرتك وصحةِ نبوتي { وارزقنا } أي المائدة أو الشكر عليها { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } تذييلٌ جارٍ مَجْرى التعليل ، أي خيرُ من يرزق لأنه خالقُ الأرزاق ومعطيها بلا عِوَض ، وفي إقباله عليه السلام على الدعاء ، بتكرير النداء المُنْبئ عن كمال الضراعة والابتهال وزيادتِه ما لم يخطُرْ ببال السائلين من الأمور الداعية إلى الإجابة والقَبول ، دلالةٌ واضحةٌ على أنهم كانوا مؤمنين ، وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة ، كما في قول إبراهيم عليه السلام .