الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (114)

قوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً } : في " تكون " ضمير يعود على " مائدة " هو اسمُها ، وفي الخبرِ احتمالان ، أظهرُهما : أنه عيد ، و " لنا " فيه وجهان أحدهما : أنه حال من " عيدا " لأنها صفة له في الأصل ، والثاني : أنها حال من ضمير " تكون " عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الحال . والوجه الثاني : أنَّ " لنا " هو الخبر ، و " عيداً " حال : إمَّا من ضمير " تكونُ " عند مَنْ يرى ذلك ، وإمَّا من الضمير في " لنا " لأنه وقعَ خبراً فتحمَّل ضميراً ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً لمائدة .

وقرأ عبد الله : { تَكُنْ } بالجزم على جواب الأمر في قوله : " أَنْزل " قال الزمخشري : " وهما نظير { يَرِثُنِي وَيَرِثُ } [ مريم : 6 ] يريد قوله تعالى : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } بالرفع صفةً ، وبالجزم جواباً ، ولكنْ القراءتان هناك متواترتان ، والجزمُ هنا في الشاذ .

والعِيد مشتق من العَوْد لأنه يعود كل سنة ، قاله ثعلب عن ابن الأعرابي . وقال ابن الأنباري : " النحويون يقولون : يوم العيد ، لأنه يعود بالفرح والسرور ، وعند العرب لأنه يعد بالفرح والحزن ، وكل ما عاد إليه في وقت فهو عِيد ، حتى قالوا للطَّيْفِ عيد " قال الأعشى :

فواكبدي من لاعجِ الحُبِّ والهَوى *** إذا اعتاد قَلْبي من أُمَيْمَة عيدُها

أي : طيفُها ، وقال تأبَّط شراً :

يا عيدُ ما لكَ مِنْ شوقٍ وإيراقِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال :

عادَ قلبي من الطويلةِ عيدُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الراغب : " والعيديُ حالةٌ تعاوِدُ الإِنسانَ ، والعائدة : كل نفع يرجع إلى الإِنسان بشيء ، ومنه " العَوْدُ " للبعيرِ المسنِّ : إمَّا لمعاودته السيرَ والعملَ فهو بمعنى فاعِل ، وإمَّا لمعاودةِ السنين وإياه ومَرِّها عليه فهو بمعنى مفعول ، قال : امرؤ القيس :

على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمنارِه *** إذا سافَه العَوْدُ النباطِيُّ جَرْجَرا

وصَغَّره على " عُيَيْد " وكَسَّروه على " أعياد " وكانَ القياسُ عُوَيْد وأَعْود ، لزوالِ موجبِ قَلْبِ الواوِ ياءً ، لأنها إنما قُلِبت لسكونِها بعد كسرةٍ ك " ميزان " ، وإنما فَعَلوا ذلك قالوا : فرقاً بينه وبين عودِ الخشب .

قوله : { لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } فيه وجهان أحدُهما : أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه وقعَ صفةً ل " عيداً " الثاني : أنه بدلٌ من " نا " في " لنا " قال الزمخشري : " لأولنا وآخرنا " بدلٌ من " لنا " بتكرير العاملِ " ثم قال : " وقرأ زيد بن ثابت والجحدري لأَولانا وأُخْرانا والتأنيثُ على معنى الأمة . " وخَصَّص أبو البقاء كلَّ وجه بشيء وذلك أنه قال : " فأمَّا " لأولنا وآخرنا " فإذا جعلت " لنا " خبراً وحالاً من فاعل " تكون " فهو صفةٌ ل " عيداً " ، وإن جعلت " لنا " صفة ل " عيد " كان " لأولنا " بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجارِّ " .

قلت : إنما فعل ذلك لأنه إذا جعل " لنا " خبراً كان " عيداً " حالاً ، وإن جعله حالاً كان " عيداً " خبراً ، فعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ " لأولنا " بدلاً من " لنا " لئلا يلزَم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه : إمَّا بالحال وإما بالخبر وهو " عيد " بخلافِ ما إذا جُعِل " لنا " صفةً ل " عيد " ، هذا الذي يظهر في تخصيصِه ذلك بذلك ، ولكن يُقال : قولُه " فإنْ جعلت لنا صفة لعيداً كان لأولنا بدلاً " مُشْكل أيضاً ، لأنَّ الفصلَ فيه موجود ، لا سيما أنَّ قولَه لا يُحْمل على ظاهره لأنَّ " لنا " ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة ، ولكنه نظر إلى الأصل ، وأنَّ التقدير : عيداً لنا لأوَّلنا ، فكأنه لا فصلَ ، والظاهرُ جوازُ البدل ، والفصلُ بالخبر أو الحال لا يَضُرُّ لأنه من تمامِه فليس بأجنبي .

واعلم أن البدلَ من ضميرِ الحاضر سواءً كان متكلماً أم مخاطباً لا يجوز عند جمهورِ البصريين من بدلِ الكل من الكلّ لو قلت : " قمتُ زيدٌ " يعني نفسَك ، و " ضربتُك عَمْراً " لم يَجُزْ ، قالوا : لأنَّ البدلَ إنما يؤتي به للبيانِ غالباً ، والحاضرُ متميِّزٌ بنفسِه فلا فائدةَ في البدلِ منه ، وهذا يَقْرُبُ من تعليلِهم في منعِ وصفِه . وأجازَ الأخفشُ ذلك مطلقاً مستدِلاً بظاهر هذه الآية وبقوله :

أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني *** حُمَيْداً قد تَذَرَّيْتُ السِّناما

ف " حُمَيْداً " بدل من ياء اعرفوني ، وقولِ الآخر :

وشوهاءَ تَغْدو بي إلى صارخ الوغى *** بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفنيق المُدَجَّلِ

وقوله :

بكم قريشٍ كُفينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ *** وأَمَّ نهج الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا

وفي الحديث : " أتينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم نفرٌ من الأشعريين " والبصريون يُؤَوِّلون جميع ذلك ، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدم في الوجه الأول ، وأما " حُمَيْداً " فمنصوب على الاختصاص ، وأمَّا " بمُسْتلئم " فمن باب التجريد وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيان ، يعني أنه جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا ، وأمَّا " قريش " فالروايةُ بالرفعِ على أنه منادى نُوِّن ضرورةً كقولِه :

سلامُ اللَّهِ يا مطرٌ عليها *** وليسَ عليك يا مطرُ السَّلامُ

وأمَّا " نفرٌ " فخبر مبتدأ مضمر أي : نحن ، ومنع ذلك بعضُهم إلا أَنْ يُفيدَ البدلُ توكيداً وإحاطةَ شمولٍ فيجوزُ ، واستدلَّ بهذه الآية وبقول الآخر :

فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مقامِنا *** ثلاثتِنا حتى أُزيروا المَنائِيَا

بجر " ثلاثتنا " بدلاً من " نا " ، ولا حُجَّة فيه لأنَّ " ثلاثتنا " توكيدٌ جارٍ مَجْرى " كل " .

قوله تعالى : { وَآيَةً } : عطف على " عيداً " ، و " منك " صفتها .