معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} (49)

قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } إليك

قوله تعالى : { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال كعب بن أسيد ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ، من رؤساء اليهود بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ، قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم ، وإنا إن اتبعناك يخالفنا اليهود ، وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك ، فاقض لنا عليهم نؤمن بك ، ويتبعنا غيرنا . ولم يكن قصدهم الإيمان ، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .

قوله تعالى : { فإن تولوا } . أي أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن .

قوله تعالى : { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } ، أي : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم .

قوله تعالى : { وإن كثيراً من الناس } يعني اليهود .

قوله تعالى : { لفاسقون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} (49)

{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ } هذه الآية هي التي قيل : إنها ناسخة لقوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ْ }

والصحيح : أنها ليست بناسخة ، وأن تلك الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه ، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق . وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم ، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسنة ، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ْ } ودل هذا على بيان القسط ، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام ، فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ، وما خالف ذلك فهو جور وظلم .

{ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ْ } كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها . ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى ، وهو أوسع ، وهذا في مقام الحكم وحده ، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق ، ولهذا قال : { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ْ } أي : إياك والاغترار بهم ، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [ الله ] إليك ، فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب ، والفرض اتباعه .

{ فَإِن تَوَلَّوْا ْ } عن اتباعك واتباع الحق { فَاعْلَمْ ْ } أن ذلك عقوبة عليهم وأن الله يريد { أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ْ } فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة ، ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول ، وذلك لفسقه .

{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ْ } أي : طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} (49)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمْ أَنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ لَفَاسِقُونَ } . .

يعني تعالى ذكره بقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب ، مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ، وأن احكم بينهم ف«أنْ » في موضع نصب بالتنزيل . ويعني بقوله : بِمَا أنْزَلَ اللّهُ : بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه .

وأما قوله : وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ فإنه نهي من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجِرَيْهم ، وأمْرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه . وقوله : وَاحْذَرْهُمْ أنْ يفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك أن يفتنوك ، فيصدّوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه ، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم . وقوله : فإنْ تَوَلّوْا فاعْلَمْ أنّمَا يُرِيدُ الله أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهمْ يقول تعالى ذكر : فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك ، فتركوا العمل بما حكمت به عليهم ، وقضيت فيهم ، فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، يقول : فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضا بحكمك وقد قضيت بالحقّ إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم . وَإنّ كَثيرا مِنَ النّاسِ لفَاسِقُونَ يقول : وإن كثيرا من اليهود لفاسقون ، يقول : لتاركوا العمل بكتاب الله ، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الرواية عن أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال كعب بن أسد وابن صوريا وشأس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعَنا يهود ولم يخالفونا ، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضيَ لنا عليهم ونؤمِن لك ونصدّقك فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله فيهم : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ . . . إلى قوله : لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَاحْذَرْهُم أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ قال : أن يقولوا في التوراة كذا ، وقد بينا لك ما في التوراة . وقرأ : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفسِ وَالعَيْنَ بالعَيْنِ والأنْفَ بالأنْفِ والأُذُنَ بالأُذُنِ وَالسّنّ بالسّنّ والجُرُوحَ قِصَاصٌ بعضها ببعض .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : دخل المجوس مع أهل الكتاب في هذه الاَية : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} (49)

{ وأن احكم } معطوف على { الكتاب } في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب } [ المائدة : 48 ] ، وقال مكي : وهو معطوف على «الحق » في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } [ المائدة : 48 ] ، والوجهان حسنان ، ويقرأ بضم النون من «أنُ احكم » مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع ، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين ، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله { أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] وقد تقدم ذكر ذلك ، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة ، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه ، وقد يجيء أحياناً مقيداً بما فيه خير ، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر : فهوى رسول الله رأي أبي بكر ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك ؟ قال : حق وافق هوى ، والهوى مقصور ووزنه فعل ، ويجمع على أهواء ، والهواء ممدود ويجمع على أهوية ، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم «أن يفتنوه » أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام ، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له مراراً احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك ، وقوله تعالى : { فإن تولوا } قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم ، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله { الفاسقون } ، قوله تعالى : { فاعلم } الآية وعد للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم ، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم ، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا ، فلذلك خصص البعض دون الكل ، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة ، وقوله تعالى : { وإن كثيراً من الناس لفاسقون } إشارة إليهم ، لكن جاءت العبارة تعمهم وغيره ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولٍّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد .