إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} (49)

{ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } عطف على الكتاب ، أي أنزلنا إليك الكتابَ والحُكْمَ بما فيه ، والتعرُّضُ لعنوان إنزاله تعالى إياه لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر ، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم ، وحكايةُ إنزال الأمر بهذا الحكم بعد ما مر من الأمر الصريح بذلك تأكيد له وتمهيدٌ لما يعقُبه من قوله تعالى : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } أي يصرِفونك عن بعضه ولو كان أقلَّ قليلٍ بتصوير الباطل بصورة الحق ، وإظهارُ الاسم الجليل لتأكيدِ الأمر بتهويل الخطب ، و( أن ) بصلته بدلُ اشتمالٍ من ضمير ( هم ) أي احذر فتنتهم ، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك ، وإعادة ما أنزل الله لتأكيد التحذير بتهويل الخطب . رُوي ( أن أحبارَ اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتِنُه عن دينه ، فذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا أبا القاسم قد عرفت أنّا أحبارُ اليهود وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهودُ كلهم ، وإن بيننا وبين قومنا خصومةً فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ) { فَإِن تَوَلَّوْا } أي أعرَضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي بذنب تولِّيهم عن حكم الله عز وجل ، وإنما عبر بذلك إيذاناً بأن لهم ذنوباً كثيرة ، هذا مع كمال عَظَمةِ واحدٍ من جملتها ، وفي هذا الإبهام تعظيمٌ للتولِّي كما في قول لبيد : [ الكامل ]

[ ترَّكُ أمكنة إذا لم أرضها ] *** أو يرتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها{[170]}

يريد به نفسه أي نفساً كبيرة ونفساً أيَّ نفس { وَإِنَّ كَثِيراً منَ الناس لفاسقون } أي متمردون في الكفر مصرُّون عليه خارجون عن الحدود المعهودة وهو اعتراض تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله .


[170]:البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 313؛ والخصائص 1/74؛ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 772؛ وشرح شواهد الشافية ص 415؛ والصاحبي في فقه اللغة ص 251؛ ومجالس ثعلب ص 63؛ والمحتسب 1/111.