اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} (49)

قوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم } : فيه أربعةُ أوجه :

أحدها : أنَّ محلَّها النَّصب عَطْفاً على " الكِتَاب " ، أي : " وأنزلنا إليكم الحكم " .

والثاني : أنَّها في محلِّ جرٍّ عَطْفاً على " بالحقِّ " ، أي : " أنزلناه بالحق وبالحكم " وعلى هذا الوجْهِ فيَجُوزُ في محلِّ " أنْ " النَّصْب والجرّ على الخلافِ المَشْهُور .

والثالث : أنَّها في محلِّ رفع على الابتداء ، وفي تقدير خَبَرهِ احتمالان :

أحدهما : أن تقدِّره مُتَأخِّراً ، أي : حكمك بما أنْزَل اللَّه أمْرُنا أو قولنا .

والآخر : أن تقدِّره متقدِّماً أي : ومِن الواجِبِ أن احكُم أي : حُكْمُك .

والرابع : أنَّهَا تَفْسِيريَّة .

قال أبُو البقاء{[11974]} : " وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ " الواو " تَمْنَع من ذلك ، والمعنى يفسد ذلِك ؛ لأنَّ " أن " التَّفْسِيريَّة يَنْبَغِي أن يَسْبِقَها قولٌ يُفسَّر بِهَا " ، أما ما ذَكَرَهُ من مَنْع " الواو " أن تكُون " أنْ " تَفسيريَّة فَوَاضِحٌ .

وأمَّا قوله : " يَسْبِقُها قوْل " إصلاحُهُ أن يقول : " مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه " ، ثم قال : ويمكن تَصْحِيحُ هذا القول بأن يكون التَّقدير : وأمَرْنَاك ، ثم فسَّر هذا الأمْر ب " احْكُمْ " ، ومنع الشَّيْخ من تصحيح هذا القَوْل بما ذكرهُ أبو البقاء ، قال : لأنَّه لم يُحْفَظ من لِسَانهم حذف الجُمْلَة المُفسَّرَة ب " أن " وما بعدها ، وهو كما قال . وقراءتَا ضمِّ نُونِ " أن " وكَسْرِهَا واضحتَان ممَّا تقدَّم في البَقَرَة : الضمَّة للإتبَاع ، والكَسْر على أصْل التِقَاء السَّاكِنَيْن .

والضَّمِير في " بَيْنَهُم " : إمَّا لليهُود خَاصَّة ، وإمَّا لِجَمِيع المُتَحَاكِمين .

فإن قيل : قالوا : هذه الآية نَاسِخَةٌ للتَّخْيِير في قوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] ، وأعَادَ ذِكْر الأمْر بالحُكْمِ بعد ذِكْرِهِ أوَّلاً : إما للتَّأكيد ، وإمَّا لأنَّهما حُكْمَان أمَر بهما جَمِيعاً ؛ لأنَّهمُ احْتَكموا إليه في زِنَا المُحْصَن ، ثُمَّ احْتَكَمُوا إليه في قتلٍ كائنٍ فيهِم .

قوله تعالى : { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : يردُّوكَ إلى أهْوائِهِم{[11975]} .

وقد ذكرنا أنَّ اليهُود اجْتَمَعُوا وأرادُوا إيقاعَهُ في تَحْرِيفِ دينهِ فعصمَهُ اللَّه عن ذلك ، فإن كلَّ من صُرِفَ من الحقِّ إلى الباطِلِ فقد فُتِن ، ومنه قولُهُ تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } [ الإسراء : 73 ] والفِتْنَةُ هاهنا : المَيْلُ عن الحقِّ والإلْقَاء في الباطِل ، وكان - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يقول : " أعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا " {[11976]} ، قال : هو أن يَعْدِلَ عن الطَّرِيق .

قال العُلَمَاءُ{[11977]} - رضي الله عنهم - : هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخَطَأ والنِّسْيَان جائِزٌ على الرُّسُل ؛ لأن الله قال : { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ، والتَّعَمُّد في مثل هذا غير جائز على الرُّسل فلم يَبْقَ إلا الخَطَأ والنسيان{[11978]} .

قوله تعالى : " أن يفْتِنُوكَ " فيه وجهان :

أظهرهما : أنَّهُ مفعول من أجلِهِ ، أي : احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك .

والثاني : أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال ، كأنَّه [ قال ] : واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ ، كقولك : " أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه " .

وقوله تعالى : " فإن تَوَلَّوْا " .

قال ابنُ عطيَّة{[11979]} : قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر ، تقديره : " لا تَتَّبعْ واحْذَر ، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك ، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ " .

ويحسُنُ أن يقدَّر هذا المحذُوف المعادل بعد قوله : " لَفَاسِقُون " ، والذي يَنْبَغِي ألاَّ يُقَال : في هذا النَّوْع ثَمَّ حذف ؛ لأنَّ ذلك من بَابِ فَحْوَى الخِطَابِ ، والأمْر فيه واضِحٌ .

فصل

المعنى : " فإن تَولَّوْا " : أعرضوا عن الإيمَان ولَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ ، { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم } أي : فاعْلَم أن إعْراضهم من أجْلِ أن يُرِيد الله أن يعجِّل لهم العُقُوبَة في الدُّنْيَا ، بأن يُسَلِّط عَلَيْهِم ويُعذِّبَهُم في الدُّنْيَا [ بالقَتْلِ والجَلاَء ]{[11980]} ، وخصَّ تعالى بَعْضَ الذُّنُوب ؛ لأنَّ القَتْل جُوزُوا به في الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبهم ، وكانت مُجَازَاتهم بالبعض كَافِياً في إهلاكهم ، { وإن كثيراً من النَّاسِ } ، يعني : اليَهُود . " لفاسقون " لمتمردّون في الكُفْرِ ومُعْتَدُون فيه .


[11974]:ينظر: الإملاء 1/218.
[11975]:ينظر: تفسير الرازي 12/13.
[11976]:تقدم.
[11977]:ينظر: تفسير الرازي 12/13.
[11978]:في أ: والرسل.
[11979]:ينظر: المحرر الوجيز 2/202.
[11980]:في أ: بالعلل والجلد.