الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} (49)

قوله سبحانه : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحق } المعنى ، عند الجمهور : إن اخترت أنْ تحكم ، فاحكم بينهم بما أنْزَلَ اللَّه ، وليسَتْ هذه الآيةُ بناسخةٍ لقوله : { أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }[ المائدة : 42 ] .

ثم حذَّر اللَّه تعالى نبيَّه عليه السلام من اتباع أهوائهم .

وقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } ، أي : لكلِّ أمة ، قاله الجمهور ، وهذا عندهم في الأحكامِ ، وأما في المعتَقَدَاتِ ، فالدِّين واحدٌ لجميع العالَمِ ، ويحتملُ أنْ يكون المرادُ الأنبياءَ ، لاسيَّما وقد تقدَّم ذكرهم ، وذكر ما أُنْزِلَ عليهم ، وتجيء الآيةُ ، معَ هذا الاحتمال تنبيهاً لنبيِّنا محمَّد عليه السلام ، أيْ : فاحفظ شرعتك ومنهاجَكَ ، لئلاَ تستزلَّك اليهودُ ، أو غيرُهم في شيء منْه ، وأكثرُ المتأوِّلين على أن الشِّرْعَة والمِنْهَاجَ بمعنًى واحدٍ ، وهي الطريقُ . وقال ابن عباس وغيره : { شِرْعَةً ومنهاجا } سبيلاً وسُنَّة ، ثم أخبر سبحانه ، أنه لَوْ شاء ، لَجَعَل النَّاس أُمَّةً واحدةً ، ولكنه لم يشأْ ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم مِنَ الكُتُب والشرائع ، كذا قال ابنُ جُرَيْج وغيره .

ثم أمر سبحانه باستباق الخيراتِ في امتثال الأوامر ، وخَتَمَ سبحانه بالموعظةِ والتَّذْكير بالمعادِ ، فقال : { إلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } والمعنى : فالبِدَار البِدَارَ .

وقوله سبحانه : { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } معناه : في الثَّوَاب والعقَاب ، فتُخْبَرُونَ به إخبار إيقاعٍ ، وهذه الآية بارعةُ الفَصَاحة ، جَمَعتِ المعانِيَ الكثيرةَ في الألفاظِ اليسيرة ، وكُلُّ كتابِ اللَّه كذلك ، إلاَّ أنَّا بقصورِ أفهامنا يَبِينُ لنا في بَعْضٍ أكثرُ ممَّا يبينُ لنا في بعض .

وقوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ }[ المائدة :49 ] .

الهوى مقصورٌ يجمعُ على أهْوَاء ، والهَوَاء ممدودٌ يُجْمع على أَهْوِيَةٍ ، ثم حذَّر تعالى نبيَّه عليه السلام من اليهودِ ، أنْ يفتنوه ، بأنْ يَصْرِفُوه عن شيء ممَّا أنزل اللَّه عليه مِنَ الأحكام ، لأنهم كانوا يريدُونَ أنْ يخدَعُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له مراراً : احكم لنا في نازلةِ كَذَا بكَذَا ، ونَتَّبِعَكَ على دينك .

وقوله سبحانه : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } قبله محذوفٌ ، تقديره : فإِنْ حكَّموك واستقاموا ، فَنِعِمَّا ذلك ، ( وَإِن تَوَلَّوْا فاعلم ) الآية ، وخصَّص سبحانه إصابتهم ببَعْض الذنوبِ دون كلِّها ، لأن هذا الوعيد ، إنما هو في الدنيا ، وذنُوبُهم نوعانِ : نوعٌ يخصُّهم ، ونوعٌ يتعدى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين ، وبه توعَّدهم اللَّه في الدنيا ، وإنما يعذَّبون بالكُلِّ في الآخرة .

وقال الفَخْر : وجوزُوا ببَعْض الذنوبِ في الدنيا ، لأنَّ مجازَاتهُمْ بالبَعْض كافٍ في إهلاكهم ، وتدميرِهِمْ ، انتهى .

وقوله سبحانه : { فاعلم . . . } الآية وعد للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقد أنجزه بقصَّة بني قَيْنُقَاعٍ ، وقصَّةِ قُرَيْظَةَ ، والنَّضِيرِ ، وإجلاءِ عُمَرَ أهْلَ خيبَرٍ ، وفَدَك ، وغيرهم .

وقوله تعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس لفاسقون } إشارة إليهم ، ويندرجُ في عمومِ الآية غَيْرُهُمْ .