قوله تعالى : { وقال الملأ من قوم فرعون } له .
قوله تعالى : { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } ، وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته .
قوله تعالى : { ويذرك } ، أي : وليذرك .
قوله تعالى : { وآلهتك } ، فلا يعبدك ولا يعبدها . قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة يعبدها ، وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج السامري لهم عجلاً ، وقال الحسن : كان قد علق على عنقه صليباً يعبده ، وقال السدي : كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناماً وأمرهم بعبادتها . وقال لقومه : هذه آلهتكم ، أراد ربها وربكم ، فذلك قوله { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] ، وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، والضحاك : ويذرك وإلهتك ، بكسر الألف ، أي : عبادتك فلا يعبدك ، لأن فرعون كان يُعبد ولا يَعبد ، وقيل : أراد بالآلهة الشمس ، وكانوا يعبدونها . قال الشاعر :
تروحنا من اللعباء قصراً *** وأعجلنا الإلاهة أن تؤبا
قوله تعالى : { سنقتل أبناءهم } ، قرأ أهل الحجاز : سنقتل بالتخفيف من القتل ، وقرأ آخرون بالتشديد ، من التقتيل على التكثير .
قوله تعالى : { ونستحيي نساءهم } نتركهن أحياء .
قوله تعالى : { وإنا فوقهم قاهرون } ، غالبون قال ابن عباس : كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل له : إنه يولد مولود يذهب بملكك ، فلم يزل يقتلهم حتى أتاهم موسى بالرسالة ، وكان من أمره ما كان ، فقال فرعون : أعيدوا عليهم القتل ، فأعادوا عليهم القتل ، فشكت ذلك بنو إسرائيل .
هذا وفرعون وملؤه وعامتهم المتبعون للملأ قد استكبروا عن آيات اللّه ، وجحدوا بها ظلما وعلوا ، وقالوا لفرعون مهيجين له على الإيقاع بموسى ، وزاعمين أن ما جاء باطل وفساد : { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } بالدعوة إلى اللّه ، وإلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، التي هي الصلاح في الأرض ، وما هم عليه هو الفساد ، ولكن الظالمين لا يبالون بما يقولون .
{ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } أي : يدعك أنت وآلهتك ، وينهى عنك ، ويصد الناس عن اتباعك .
ف { قَالَ } فرعون مجيبا لهم ، بأنه سيدع بني إسرائيل مع موسى بحالة لا ينمون فيها ، ويأمن{[325]} فرعون وقومه - بزعمه - من ضررهم : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } أي : نستبقيهن فلا نقتلهن ، فإذا فعلنا ذلك أمنا من كثرتهم ، وكنا مستخدمين لباقيهم ، ومسخرين لهم على ما نشاء من الأعمال { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } لا خروج لهم عن حكمنا ، ولا قدرة ، وهذا نهاية الجبروت من فرعون والعتو والقسوة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىَ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون : أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل ليفسدوا في الأرض ، يقول : كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر ، وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ يقول : ويذرك : ويدع خدمتك موسى ، وعبادتك وعبادة آلهتك .
وفي قوله : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وجهان من التأويل : أحدهما أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك ؟ وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه من التأويل كان النصب في قوله : وَيَذَرَكَ على الصرف ، لا على العطف به على قوله «ليفسدوا » . والثاني : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وليذرك وآلهتك كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين . وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه كان نصب : وَيَذَرَكَ على العطف على ليُفْسِدُوا .
والوجه الأوّل أولى الوجهين بالصواب ، وهو أن يكون نصب : وَيَذَرَكَ على الصرف ، لأن التأويل من أهل التأويل به جاء .
وبعد ، فإن في قراءة أُبيّ بن كعب الذي :
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج عن هارون ، قال : في حرف أبيّ بن كعب : وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك .
دلالة واضحة على أن نصب ذلك على الصرف .
وقد روى عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ عطفا بقوله : وَيَذَرَكَ على قوله : أتَذَرُ مُوسَى كأنه وجّه تأويله إلى : أتذرُ موسى وقومه ويذرك وآلهتك ليفسدوا في الأرض ؟ وقد تحتمل قراءة الحسن هذه أن يكون معناها : أتذرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وهو يذرُك وآلهتك ؟ فيكون «يذرُك » مرفوعا على ابتداء الكلام .
وأما قوله : وآلِهَتَكَ فإن قرّاء الأمصار على فتح الألف منها ومدّها ، بمعنى : وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها . وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان له بقرةٌ يعبدوها . وقد رُوى عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها : «وَيَذَرَكَ وإلا هَتَكَ » بكسر الألف ، بمعنى : ويذرك وعبُودتك .
والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها ، هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليها .
ذكر من قال : كان فرعون يعبُد آلهة على قراءة من قرأ : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وآلهته فيما زعم ابن عباس ، كانت البقرة كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج لهم عجلاً وبقرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : كان لفرعون جُمَانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا أبان بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : بلغني أن فرعون كان يعبد إلها في السرّ . وقرأ : «وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ » .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : كان لفرعون إله يعبده في السرّ .
ذكر من قال معنى ذلك : ويذرك وعبادتك ، على قراءة من قرأ : «وإلاهتك » :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو ، عن الحسن ، عن ابن عباس : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : إنما كان فرعون يُعبد ولا يعَبد .
قال ثنا أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قرأ : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : وعبادتك ، ويقول إنه كان يُعبد ولا يَعبد .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : يترك عبادتك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «وإلاهَتَكَ » يقول : وعبادتك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : عبادتك .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو بن حسين ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » وقال : إنما كان فرعون يُعبد ولا يَعبد .
وقد زعم بعضهم : أن من قرأ : «وإلاهَتَكَ » إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ : وآلِهَتَكَ غير أنه أنث وهو يريد إلها واحدا ، كأنه يريد «وَيَذَرَكَ وإلاهَكَ » ثم أنث الإله فقال : «وإلاهتك » .
وذكر بعض البصريين أن أعرابيا سُئِل عن الإلاهة فقال : «هي عَلَمة » يريد علما ، فأنث «العلم » ، فكأنه شيء نصب للعبادة يُعبد . وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي :
تَرَوّحْنا منَ اللّعْباءِ عَصْرا ***وأعْجَلْنا الإلاهَةَ أنْ تَئُوبا
يعني بالإلاهة في هذا الموضع : الشمس . وكأن هذا المتأوّل هذا التأويل ، وجّه الإلاهة إذا أدخلت فيها هاء التأنيث ، وهو يريد واحد الاَلهة ، إلى نحو إدخالهم الهاء في وِلْدَتِي وكَوْكَبَتِي ومَاءَتي ، وهو أهْلَة ذاك ، وكما قال الراجز :
يا مُضَرُ الحَمْرَاءِ أنْتِ أُسْرَتِي ***وَأنْتِ مَلْجاتِي وأنْتِ ظَهْرَتي
يريد : ظهري . وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرآ ، فلا وجه لقول هذا القائل ما قال مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك .
وقوله : قالَ سَنُقَتّلُ أبْناءَهُمْ يقول : قال فرعون : سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل . وَنَسْتَحِيي نساءَهُمْ يقول : ونستبقي إناثهم . وَإنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ يقول : وإنا عالون عليهم بالقهر ، يعني بقهر الملك والسلطان . وقد بينا أن كلّ شيء عال بقهر وغلبة على شيء ، فإن العرب تقول : هو فوقه .