قوله تعالى : { وهو الذي أنشأكم } ، خلقكم وابتدأكم .
قوله تعالى : { من نفس واحدة } ، يعني : آدم عليه السلام .
قوله تعالى : { فمستقر ومستودع } " ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة { فمستقر } بكسر القاف ، يعني : فمنكم مستقر ومنكم مستودع ، وقرأ الآخرون بفتح القاف ، أي : فلكم مستقر ومستودع . واختلفوا في المستقر والمستودع ، قال عبد الله بن مسعود : فمستقر في الرحم إلى أن يولد ، ومستودع في القبر إلى أن يبعث . وقال سعيد بن جبير وعطاء : فمستقر في أرحام الأمهات ، ومستودع في أصلاب الآباء ، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس . قال سعيد بن جبير : قال لي ابن عباس : هل تزوجت ؟ قلت : لا .
قال : أما أنه ما كان من مستودع في ظهرك فيستخرجه الله عز وجل . وروي عن أبي أنه قال : مستقر في أصلاب الآباء ، ومستودع في أرحام الأمهات . وقيل : مستقر في الرحم ، ومستودع فوق الأرض ، قال الله تعالى : { ونقر في الأرحام ما نشاء } [ الحج :5 ] . وقال مجاهد : مستقر على ظهر الأرض في الدنيا ، ومستودع عند الله في الآخرة ، ويدل عليه قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [ البقرة :36 ] . وقال الحسن : المستقر في القبر ، والمستودع في الدنيا ، وكان يقول : يا بن آدم ، أنت وديعة في أهلك ، ويوشك أن تلحق بصاحبك . وقيل : المستودع القبر ، والمستقر الجنة والنار ، لقوله تعالى في صفة الجنة والنار : { حسنت مستقراً ومقاما } [ الفرقان :76 ] وفي صفة أهل النار { ساءت مستقراً ومقاما } [ الفرقان :66 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم عليه السلام . أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي ؛ الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو ، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه ، وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه ، ولا يدرك وصفه ، وجعل الله لهم مستقرا ، أي منتهى ينتهون إليه ، وغاية يساقون إليها ، وهي دار القرار ، التي لا مستقر وراءها ، ولا نهاية فوقها ، فهذه الدار ، هي التي خلق الخلق لسكناها ، وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها ، التي تنشأ عليها وتعمر بها ، وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم ، ثم في دار الدنيا ، ثم في البرزخ ، كل ذلك ، على وجه الوديعة ، التي لا تستقر ولا تثبت ، بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر ، وأما هذه الدار ، فإنها مستودع وممر { قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } عن الله آياته ، ويفهمون عنه حججه ، وبيناته .
ثم ساق - سبحانه - لونا رابعا من دلائل كمال قدرته ورحمته . فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } .
أى : وهو - سبحانه - الذى أوجدكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم - عليه السلام - قال - تعالى - { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } وفى هذه الجملة الكريمة تذكير بنعمة أخرى من نعم الله على خلقه ، لأن رجوع الناس إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتراحم والتعاطف ، وفيها - أيضاً - دليل على عظيم قدرته - عز وجل - . والفاء فى قوله - تعالى - { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } للتفريع عن أنشأكم .
أى : أنشأكم من نفس واحدة فلكم موضع الاستقرار فى الأرحام أو فى الأرض وموضع استيداع فى الأصلاب أو فى القبور .
وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس ، وقد زكاه الإمام الرازى فقال : ومما يدل على قوة هذا القول أن النطقة الواحدة لا تبقى فى صلب الأب زمانا طويلا فالمستقر أقرب إلى الثبات من المستودع " .
وقيل المستقر حالة الإنسان بعد الموت لأنه إن كان سعيدا فقد استقرت تلك السعادة ، وكذلك إن كان شقيا ، والمستودع حالة قبل الموت لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا .
وقيل : المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها ، والمستودع الذى لم يخلق بعد وسيخلق .
والذى نراه أن الرأى الأول هو الصحيح لأنه رأى جمهور المفسرين ، ولأن شواهد القرآن تؤيده كما فى قوله - تعالى - { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } وكما فى قوله - تعالى - { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وقرىء { فَمُسْتَقِرٌّ } - بكسر القاف - أى : فمنكم مستقر فى الأرحام ومنكم مستودع .
وقوله { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } أى : قد فصلنا الآيات الدالة على قدرتنا ووضحناها لقوم يفقهون ما يتلى عليهم ويتدبرونه فينتفعون بذلك .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قيل " يعلمون " مع ذكر النجوم و { يَفْقَهُونَ } مع ذكر إنشاء بنى آدم ؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذى هو استعمال فطنته وتدقيقه نظره مطابقا له .
وقد علق صاحب الانتصاف على كلام الزمخشرى بما ملخصه : " جواب الزمخشرى صناعى ، والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة ، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين فى اللفظ ، لما فى ذلك من التكرار فعدل إلى فاصلة مخالفة تحسيناً للنظم واتساقا فى البلاغة ، ويحتمل وجهاً آخر فى تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بمخلوقاته وكانت الآية الأولى خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها ، إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية فى تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ، ولا كذلك النظر فى إنشائهم من نفس واحدة ، وتقلباتهم فى أطوار مختلفة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها ، فإذا تمهد ذلك فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفى من أبشع القبيلين جهلا وهم الذين لا يتبصرون فى أنفسهم ، ونفى الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا . . وإذا قيل : فلان " لا يفقه شيئاً " كان أذم فى العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئاً وكأن معنى قولك لا يفقه شيئاً ليست له أهلية الفهم وإن فهم ، وأما قولك " لا يعلم شيئاً " فغايته نفى حصول العلم له ، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم .
وقوله { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع } الآية ، الإنشاء فعل الشيء ، و { من نفس واحدة } يريد آدم عليه السلام ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «فمستقَر » بفتح القاف على أنه موضع استقرار ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقِر » بكسر القاف على أنه اسم فاعل ، وأجمعوا على فتح الدال من «مستودَع » بأن يقدر موضع استيداع ، وأن يقدر أيضاً مفعولاً ولا يصح ذلك في مستقر لأن استقر لا يتعدى فيبنى منه مفعول أما أنه روى هارون الأعور عن أبي عمرو «ومستودِع » بكسر الدال ، فمن قرأ «فمستقَر ومستودِع » على أنها موضع استقرار وموضع استيداع علقها بمجرور تقديره فلكم مستقر ومستودع ، ومن قرأ «فمستقِر ومستودع » على اسم الفاعل في «مستقِر » واسم المفعول في «مستودَع » علقها بمجرور تقديره فمنكم مستقر ومستودع واضطرب المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع ، فقال الجمهور مستقر في الرحم ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي الله بخروجهم ، وقال ابن عون : مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض فقالوا : قد توفي فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله عن «مستقر ومستودع » فقال : مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن : مستقر في القبور ومستودع في الدنيا ، وقال ابن عباس : المستقر الأرض والمستودع عند الرحم ، وقال ابن جبير : المستودع في الصلب والمستقر في الآخرة والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقراراً مطلقاً لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقراراً مطلقاً ، وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر » بالإضافة إلى التي قبلها و «مستودع » بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد ، و { يفقهون } معناه يفهمون{[5030]} ، وقد تقدم تفسير مثل هذا آنفاً .
هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفْس واحدة كما هو معلوم لهم ، فالّذي أنشأ النّاس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره ممّا أشركوا به ، والنّظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات . قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين ، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غيرَ من خلقهم على نحو ما قررتُه في الآية قبل هذه .
والإنشاء : الإحداث والإيجاد . والضّمير المنصوب مراد به البشر كلّهم . والنّفس الواحدة هي آدم عليه السّلام .
وقوله : { فمستقرّ } الفاء للتّفريع عن { أنشأكم } ، وهو تفريع المشتَمَل عليه المقارن على المشتمِل .
وقرأه الجمهور { مستقَر } بفتح القاف وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وروح عن يعقوب « بكسر القاف » . فعلى قراءة فتح القاف يكون مصدراً ميمياً ، و { مستَودَع } كذلك ، ورفعهما على أنّه مبتدأ حُذف خبره ، تقديره : لكم أو منكم ، أو على أنّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فأنتم مُستقرّ ومستودَع . والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به ، أي فتفرّع عن إنشائكم استقرار واستيداع ، أي لكم .
وعلى قراءة كسر القاف يكون المستقرّ اسم فاعل . والمستودَع اسم مفعول من استودعَه بمعنى أودعه ، أي فمستقِرّ منكم أقررناه فهو مستقرّ ، ومستودَع منكم ودّعناه فهو مستودَع . والاستقرار هو القرار ، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد مثل استجاب . يقال : استقرّ في المكان بمعنى قرّ . وتقدّم عند قوله تعالى : { لكلّ نبأ مستقرّ } في هذه السورة [ 67 ] .
والاستيداع : طلب التّرك ، وأصله مشتقّ من الوَدْع ، وهو التّرك على أن يُسترجع المستوْدَعُ . يقال : استودعه مالاً إذا جعله عنده وديعة ، فالاستيداع مؤذن بوضع موقّت ، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل .
وقد اختلف المفسّرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتّفاقهم على أنّهما متقابلان . فعَن ابن مسعود : المستقَرّ الكون فوق الأرض ، والمستودَع الكون في القبْر . وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيهاً لهم بأنّ حياة النّاس في الدّنيا يعقبها الوضع في القبور وأنّ ذلك الوضع استيداع موقّت إلى البعث الّذي هو الحياة الأولى ردّاً على الّذين أنكروا البعث .
وعن ابن عبّاس : المستقرّ في الرّحم والمستودَع في صلب الرجل ، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضاً ، وقاله مجاهد والضحْاك وعطاء وإبراهيم النخعي ، وفسّر به الزجّاج . قال الفخر : وممّا يدلّ على قوّة هذا القول أنّ النّطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رَحم الأمّ زماناً طويلاً . وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصّدر أعرضنا عن التّطويل بها . وقال الطّبري إنّ الله لم يخصّص معنى دون غيره ، ولا شكّ أنّ من بني آدم مستقرّاً في الرّحم ومستودَعاً في الصلب ، ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودَع في أصلاب الرّجال ، ومنهم مستقرّ في القبر مستودَع على ظهر الأرض ، فكلّ مستقِرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله : فمستقَرّ ومستودع } اه .
وقال ابن عطيّة : الّذي يقتضيه النّظر أنّ ابن آدم هو مستودَع في ظهر أبيه وليس بمستقرّ فيه لأنّه ينتقل لا محالة ثمّ ينتقل إلى الرّحم ثمّ ينتقل إلى الدّنيا ثمّ ينتقل إلى القبر ثمّ ينتقل إلى الحشر ثمّ ينتقل إلى الجنّة أو النّار . وهو في كلّ رتبة بين هذين الظرفين مستقِرّ بالإضافة إلى الّتي قبلها ومستودَع بالإضافة إلى الّتي بعدها اه .
والأظهر أن لا يقيّد الاستيداع بالقبور بل هو استيداع من وقت الإنشاء ، لأنّ المقصود التّذكير بالحياة الثّانية ، ولأنّ الأظهر أنّ الواو ليست للتّقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع ، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودِعها . وإيثار التّعبير بهذين المصدرين ما كان إلاّ لإرادة توفير هذه الجملة .
وعلى قراءة كسر القاف هو اسم فاعل . { ومستودع } اسم مفعول ، والمعنى هو هو .
وقوله : { قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون } تقرير لنظيره المتقدّم مقصود به التّذكير والإعذار .
وعدل عن ( يعلمون ) إلى { يفقهون } لأنّ دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبّر ، فإنّ المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبّر عن علمها بأنّه فِقه ، بخلاف دلالة النّجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكرّرة ، وتعريضاً بأنّ المشركين لا يعلمون ولا يفقهون ، فإنّ العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة ، والفقه هو إدراك الأشياء الدّقيقة . فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين ، ولذلك قال بعدَ هذا { إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] .