قوله تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم } وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح . { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } قال ابن عباس : ليقتلوه ويهلكوه ، وقيل : ليأسروه . والعرب تسمي الأسير أخيذا . { وجادلوا بالباطل ليدحضوا } ليبطلوا . { به الحق } الذي جاء به الرسل ، ومجادلتهم ، مثل قولهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } ( إبراهيم-10 ) { لولا أنزل علينا الملائكة { ( الفرقان-21 ) ونحو ذلك .
ثم هدد من جادل بآيات الله ليبطلها ، كما فعل من قبله من الأمم من قوم نوح وعاد والأحزاب من بعدهم ، الذين تحزبوا وتجمعوا على الحق ليبطلوه ، وعلى الباطل لينصروه ، { و } أنه بلغت بهم الحال ، وآل بهم التحزب إلى أنه { هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ } من الأمم { بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : يقتلوه . وهذا أبلغ ما يكون الرسل الذين هم قادة أهل الخير الذين معهم الحق الصرف الذي لا شك فيه ولا اشتباه ، هموا بقتلهم ، فهل بعد هذا البغي والضلال والشقاء إلا العذاب العظيم الذي لا يخرجون منه ؟ ولهذا قال في عقوبتهم الدنيوية والأخروية : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : بسبب تكذيبهم وتحزبهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } كان أشد العقاب وأفظعه ، ما هو إلا صيحة أو حاصب ينزل عليهم أو يأمر الأرض أن تأخذهم ، أو البحر أن يغرقهم فإذا هم خامدون .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أى : قبل هؤلاء الكافرين المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق { قَوْمُ نُوحٍ } الذين أغرقناهم بسبب هذا التكذيب لنبيهم .
{ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ } أى : وكذلك الأقوام الآخرون الذين جاءوا من بعد قوم نوح ، قد تحزبوا على أنبيائهم ، وأجمعوا على تكذيبهم ، كما فعل قوم عاد مع نبيهم هود ، وكما فعل قوم ثمود مع نبيهم صالح ، وكما فعل أهل مدين مع نبيهم شعيب . .
فالضمير فى قوله - تعالى - : { مِن بَعْدِهِمْ } يعود إلى قوم نوح .
وأفردهم - سبحانه - بالذكر لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما . ولم يزدهم دعاؤه لهم إلا عتوا ونفورا .
وقوله - تعالى - : { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } بيان لما فعله هؤلاء الأقوام المجرمين ، لم يكتفوا بالتكذيب لأنبيائهم ، بل إن كل أمة منهم قد مكرت بنبيها ، وأرادت به السوء ، وحاولت أن تتمكن منه بالأسر أو بالقتل ، وجادلته بالجدال الباطل ، لتزيل به الحق الذى جاء به من عند ربه وتبطله .
والتعبير بقوله : { لِيَأْخُذُوهُ } يشعر بأن هؤلاء المجرمين كانوا حريصين على التمكن من إيذاء نبيهم ومن الاعتداء عليه ، كما يحرص الشخص على أخذ عدوه وأسره ليفعل به ما يشاء .
وقوله - تعالى - : { فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } بيان لما آل إليه مكرهم وجدالهم بالباطل .
أى : هموا بما هموا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، وحاولوا أن يجعلوا رسولهم بمنزلة الأسير فيهم . فكانت نتيجة كل ذلك أن أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، بأن دمرناهم تدميرا فكيف كان عقابى لهم ؟ لقد كان عقابا مدمرا ، جعلهم أثرا بعد عين ، وترك آثار مساكنهم تشهد بهلاكهم واستئصالهم .
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه {[25416]} محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ، بأن له أسوة من سلف من الأنبياء ؛ فإنه قد كذبهم {[25417]} أممهم وخالفوهم ، وما آمن بهم منهم إلا قليل{[25418]} ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } وهو أول رسول بَعَثه الله ينهى عن عبادة الأوثان ، { وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : من كل أمة ، { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : حرصوا على قتله بكل ممكن ، ومنهم من قتل رسوله {[25419]} ، { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي : مَاحَلُوا بالشبهة {[25420]} ليردوا الحق الواضح الجلي .
وقد قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عارم أبو النعمان ، حدثنا مُعْتَمِر ابن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن حَنَش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس {[25421]} [ رضي الله عنه ] {[25422]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أعان باطلا ليدحض بباطله حقًّا ، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله " {[25423]} .
وقوله : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام ، { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : فكيف بلغك عذابي لهم ، ونكالي بهم ؟ قد كان شديدًا موجعًا مؤلمًا .
ثم مثل لهم بمن تقدمهم من الأمم ، أي كما حل بأولئك كذلك ينزل بهؤلاء . { الأحزاب } : يريد بهم عاداً وثمود أو أهل مدين وغيرهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «برسولها » ، رداً على الأمة ، وضمير الجماعة هو على معنى الأمة لا على لفظها .
وقوله : { ليأخذوه } معناه ليهلكوه كما قال تعالى : { فأخذتهم }{[9964]} والعرب تقول للقتيل : أخيذ ، وللأسير كذلك ، ومنه قولهم : أكذب من الأخيذ الصبحان{[9965]} . وقال قتادة : { ليأخذوه } معناه : ليقتلوه . و { ليدحضوا } معناه : ليزلقوا وليذهبوا ، والمدحضة المزلة والمزلقة{[9966]} .
وقوله : { فكيف كان عقاب } تعجيب وتعظيم ، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر .