{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } والحاسد ، هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود ، فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من الأسباب ، فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره ، وإبطال كيده ، ويدخل في الحاسد العاين ؛ لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع ، خبيث النفس ، فهذه السورة ، تضمنت الاستعاذة من جميع أنواع الشرور ، عمومًا وخصوصًا .
ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره ، ويستعاذ بالله منه [ ومن أهله ] .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله : { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } أي إذا ظهر ما فى نفسه من الحسد ، وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ، ومبادى الأضرار بالمحسود قولا وفعلا .
وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الحسد في أحاديث كثيرة منها قوله : " لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا . . " .
ومنها قوله : " إياكم والحسد ، فإنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب " .
هذا ، وقد تكلم العلماء كلاما طويلا عند تفسيرهم لقوله - تعالى - : { وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } عن السحر ، فمنهم من ذهب إلى أنه لا حقيقة له ، وإنما هو تخييل وتمويه . .
وجمهورهم على إثباته ، وأن له آثارا حقيقية ، وأن الساحر قد يأتي بأشياء غير عادية ، إلا أن الفاعل الحقيقى في كل ذلك هو الله - تعالى - .
وقد بسطنا القول فى هذه المسألة عند تفسيرنا لقوله - تعالى - فى سورة البقرة : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر . . . } نسأل الله - تعالى - أن يعيذنا من شرار خلقه . .
{ ومن شر حاسد إذا حسد } إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه ، فإنه لا يعود ضرر منه قبل ذلك إلى المحسود ؛ بل يخص به لاغتمامه بسروره ، وتخصيصه ؛ لأنه العمدة في إضرار الإنسان ؛ بل الحيوان غيره ، ويجوز أن يراد بالغاسق ما يخلو عن النور ، وما يضاهيه كالقوى وبالنفاثات النباتات ، فإن قواها النباتية من حيث أنها تزيد في طولها وعرضها وعمقها كانت تنفث في العقد الثلاثة ، وبالحاسد الحيوان ، فإنه إنما يقصد غيره غالبا طمعا فيما عنده ، ولعل إفرادها من عالم الخلق ؛ لأنها الأسباب القريبة للمضرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أنزلت علي سورتان ما أنزل مثلهما ، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما " ، يعني المعوذتين .
وقوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } قال قتادة : من شر عينه ونفسه ، يريد بالنفس السعي الخبيث والإذاية كيف قدر ؛ لأنه عدو مجد ممتحن ، وقال الشاعر :
كل العداوة قد ترجى إماتتها *** إلا عداوة من عاداك من حسد{[12041]}
وعين الحاسد في الغالب لاقفة ، نعوذ بالله عز وجل من شرها ، قال الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود{[12042]}
والحسد في الاثنتين اللتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسد مستحسن غير ضار : ، وإنما هو باعث على خير{[12043]} .
وهذه السورة خمس آيات ، فقال بعض الحذاق : هي مراد الناس بقولهم للحاسد إذا نظر إليهم : الخمس على عينيك ، وقد غلطت العامة في هذا ، فيشيرون بالأصابع لكونها خمسة .
وأمال أبو عمرو [ حاسد ] ، والباقون يفتحون الحاء ، وقال الحسن بن الفضل : ذكر الله تعالى الشرور في هذه السورة ، ثم ختمها بالحسد ليظهر أنه أخس طبع .
عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل ، لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرةً وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته ، فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاهُ لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل ، لأن الليل وقت الخلوة وخطورِ الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد وبالمحسود .
والحسد : إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها . وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازاً .
والغبطة : تمنّي المرء أن يكون له من الخير مثلُ ما لمن يروق حاله في نظره ، وهو محمل الحديث الصحيح : « لا حَسَدَ إلا في اثنتين » أي لا غبطة ، أي لا تحق الغبطة إلا في تينك الخصلتين ، وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين .
فقد يغلب الحسدُ صبرَ الحاسد وأناتَه فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكه رأساً . وقد كان الحسد أولَ أسباب الجنايات في الدنيا إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قُبِل قربانه ولم يقبل قُربان الآخر ، كما قصّه الله تعالى في سورة العقود .
وتقييد الاستعاذة من شره بوقت : { إذا حسد } لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسُود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإِلحاق الضرّ به . والمراد من الحسد في قوله : { إذا حسد } حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته ، فلا إشكال في تقييد الحسد ب { حسد } وذلك كقول عمرو بن معد يكرب :
وبَدَت لميسُ كأنَّها *** بَدْرُ السماءِ إذا تَبَدَّى
ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود ، وبعكسه الكناية عن سيّىء الحال بالحاسد ، وعليه قول أبي الأسود :
حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداءٌ له وخصوم
كضرائرِ الحسناء قُلْنَ لوجههـا *** حَسَداً وبُغضاً إنّه لَمشُوم
إن يحْسدوني فإني غيرُ لائمهم *** قَبْلي من الناس أهلُ الفَضْل قد حُسِدوا
فدَام لي ولَهُم مَا بي وما بِهِمُ *** وماتَ أكْثَرُنَا غَيْظاً بِمَا يَجِــــــد