ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد ، وهو تمني زوال نعمة المحسود :
وداريت كل الناس إلا لحاسد *** مداراته عزت وشق نوالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمة *** إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
قال تعالى : { ومن شر حاسد } أي ثابت الاتصاف بالحسد معرق فيه ، ونكّره ؛ لأنه ليس كل حاسد مذموماً ، وأعظم الحسدة الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات .
ولما كان الضار من الحسد إنما هو ما أظهر وعمل بمقتضاه بالإصابة بالعين أو غيرها ، قال مقيداً له : { إذا حسد * } أي حسد بالفعل بعينه الحاسدة ، وأما إذا لم يظهر الحسد فإنه لا يتأذى به إلا الحاسد ، لاغتمامه بنعمة غيره ، وفي إشعار الآية الدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين ؛ لأن خير الناس من عاش محسوداً ، ومات محسوداً ، ولمن لم يلق بالاً للدعاء بذلك ، ويهتم بتحصيل ما يحسد عليه ، ضحك منه إبليس إذا تلا هذه الآية ، لكونه ليس له فضيلة يحسد عليها ، ولعله عبر بأداة التحقيق إشعاراً بأن من كان ثابت الحسد متمكناً من الاتصاف به بما أشعر به التعبير بالوصف تحقق منه إظهاره ، ولم يقدر على مدافعته في الأغلب إلا من عصم الله تعالى ، وقد علم بكون الحسد علة السحر الموقع في القتل الذي هو أعظم المعاصي بعد الشرك وفي الشرك ؛ لأنه لا يصح غاية الصحة إلا مع الشرك أن الحسد شر ما انفلق عنه ظلام العدم ، والشاهد لذلك غلبته على الأمم السالفة ، وتحذير الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس منه بشهادة هاديها صلى الله عليه وسلم .
أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، ألا والبغضاء هي الحالقة ، لا أقول : إنها تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين " . وفي الباب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مسعود رضي الله عنه ، وأعظم أسباب الحالقة أو كلها الحسد .
فعلم بهذا رجوع آخر السورة على أولها ، وانعطاف مفصلها على موصلها ، ومن أعيذ من هذه المذكورات انفلق سماء قلبه عن شمس المعرفة بعد ظلام ليل الجهل ، فأشرقت أرجاؤه بأنوار الحكم ، إلى أن يضيق الوصف له عن بدائع الكشف :
هناك ترى ما يملأ العين قرة *** ويسلي عن الأوطان كل غريب
فينقطع التعلق عما سوى الله بمحض الاتباع والبعد عن الابتداع بمقتضى{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }[ آل عمران : 31 ] .
وقد بطل بالأمر بالاستعاذة قول الجبرية : إنا كالآلة ، لا فعل لنا أصلاً ، وإنما نحن كالحجر لا يتحرك إلا بمحرك ؛ لأنه لو كان هو المحرك لنا بغير اختيار لم يكن للأمر فائدة . وقول القدرية : إنا نخلق أفعالنا ، وقول الفلاسفة : إنه إذا وجد السبب والمسبب حصل التأثير من غير احتياج إلى ربط إلهي ، كالنار والحطب ؛ لأنه لو كان ذلك لكانت هذه الأفعال المسببات إذا وجدت من فاعليها الذين هم الأسباب ، أو الأفعال التي هي الأسباب ، والمسببات التي هي الأبدان المراد تأثيرها أثرت ولم تنفع الاستعاذة ، والشاهد خلافه ، وثبت قول الأشاعرة أهل السنة والجماعة :إنه إذا وجد السبب والمسبب توقف وجود الأثر على إيجاد الله تعالى ، فإن أنفذ السبب وجد الأثر ، وإن لم ينفذه لم يوجد ، والسورتان معلمتان بأن البلايا كثيرة ، وهو قادر على دفعها ، فهما حاملتان على الخوف والرجاء ، وذلك هو لباب العبودية ، وسبب نزول المعوذتين على ما نقل الواحدي عن المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين والبغوي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم " أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدبت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر شعر رأسه ، ويرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، يذوب ولا يدري ما عراه ، فبينا هو نائم ذات يوم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل ؟ قال : طب . قال : وما طب ؟ قال : سحر . قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي . قال : وبم طبه ؟ قال : بمشط ومشاطة . قال : وأين هو ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راغوفة في بئر ذروان - بئر في بني زريق ، والجف : قشر الطلع ، والراغوفة : حجر في أسفل البئر يقوم عليه المائح- ، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال لعائشة رضي الله عنها : " يا عائشة ! أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ! " ، ثم بعث علياً والزبير وعمار بن ياسر رضي الله عنهم فنزحوا البئر كأنه نقاعة الحناء ، ثم نزعوا الصخرة وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه ، وأسنان مشطه ، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر " ، فأنزل الله سبحانه وتعالى سورتي المعوذتين ، وهما إحدى عشرة آية : الفلق خمس والناس ست ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما نشط من عقال ، وجعل جبرئيل عليه الصلاة والسلام يقول : " بسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، ومن حاسد وعين ، والله يشفيك " ، فقالوا : يا رسول الله ! أفلا نأخذه فنقتله ؟ فقال : " أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن أثير على الناس شراً " ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتى البئر بنفسه ، ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال : " والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، لكأن نخلها رؤوس الشياطين ، فقلت له : يا رسول الله ! " هلا أخرجته ؟ فقال : " أما أنا فقد شفاني الله ، وكرهت أن أثير على الناس منه شراً " ، ويجمع بأنه أتاها صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة فلم يخرجه ، ثم إنه وجد بعض الألم فأرسل إليه ، فأخرجه فزال الألم كله ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله ، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ، ثم قال : " أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه " ؟ قلت : وما ذاك يا رسول الله ، قال : " أتاني ملكان " فذكره ، وروى النسائي في المحاربة من سننه ، وأبو بكر ابن أبي شيبة وأحمد بن منيع ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم ، والبغوي في تفسيره ، كلهم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : كان رجل يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذ له ، فسحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى لذلك أياماً ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : " إن رجلاً من اليهود سحرك ، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا ، أو قال : فطرحه في بئر رجل من الأنصار ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخرجوها ، فجيء بها فحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال " ، فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ، ولا رآه في وجهه قط .
وفي رواية : فأتاه ملكان يعوذانه ، فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجله ، فقال أحدهما : أتدري ما وجعه ؟ قال : كأن الذي يدخل عليه عقد له وألقاه في بئر ، فأرسل إليه رجلا- وفي رواية : علياً رضي الله عنه- فأخذ العقد فوجد الماء قد اصفر ، قال : فأخذ العقد فحلها فبرأ ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يذكر له شيئاً ولم يعاتبه فيه ، وهذا الفضل لمنفعة المعوذتين كما منح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكذا تفضل به على سائر أمته .
وروى أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ، والنسائي مسنداً أو مرسلاً ، قال النووي : بالأسانيد الصحيحة عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ { قل هو الله أحد } والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثة مرات يكفيك كل شيء " .
والأحاديث في فضل هذه السور الثلاث كثيرة جداً ، وجعل التعويذ في سورتين إشارة إلى استحباب تكريره ، وجعلتا إحدى عشرة آية ندباً إلى تكثيره في تكريره ، وقدمت الفلق التي خمس آيات مع ما مضى من المناسبات ؛ لأن اقترانها بسورة التوحيد أنسب ، وشفعها بسورة الناس التي هي ست آيات أنسب ، ليكون الشفع بالشفع ، والابتداء بالوتر بعد سورة الوتر ، وحاصل هذه السورة العظمى في معناها الأبدع الأسمى الاستعاذة بالله بذكر اسمه { الرب } المقتضي للإحسان والتربية بجلب النعم ودفع النقم من شر ما خلق ، ومن السحر والحسد ، كما كان أكثر البقرة المناظرة لها في رد المقطع على المطلع ، لكونها ثانية من الأول ، كما أن هذه ثانية من الآخر في ذكر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الحاسدين له على ما أوتي من النعم ، وفي تذكيرهم بما منحهم من النعم التي كفروها ، وأكثر ذلك في بني إسرائيل الذين كانوا أشد الناس حسداً له صلى الله عليه وسلم ، وكان من أعظم ما ضلوا به السحر المشار إليه بقوله تعالى :واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان }[ البقرة : 102 ] ، حتى قال : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } إلى أن قال :{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم }[ البقرة : 109 ] ، وكان السحر من أعظم ما أثر في النبي صلى الله عليه وسلم من كيدهم ، حتى أنزل فيه المعوذتان ، وكان الساحر له منهم .
وقد انقضى ما يسر الله من الكلام على انتظام معانيها بحسب تركيب كلماتها ، وبقي الكلام على كلماتها من حيث العدد ، فيما تشير إليه من البركات والمدد ، هي ثلاث وعشرون كلمة ، إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة والعشرين من النبوة يأمن من أذى حاسديه ، وذلك بالوفاة عند تمام الدين ويأس الحاسدين من كل شيء من الأذى في الدين والدنيا ، وخلاص النبي صلى الله عليه وسلم من كل كدر ، فإذا ضممت إليها الضمائر -وهي خمسة- كانت ثماني وعشرين ، وهي توازي سنة خمس عشرة من الهجرة ، وذلك عند استحكام أمر عمر رضي الله عنه في السنة الثانية من خلافته ببث العساكر ، وإنفاذه إلى ملك الفرس والروم ، وتغلغل هيبته في قلوبهم ، وتضعضع الفرس بغلب العرب على رستم أكبر أمرائهم ، والروم بغلبهم على ماهان أعظم رؤسائهم ، فاضمحل أمر المنافقين والحاسدين ، وأيسوا من تأثير أدنى كيد من أحد من الكائدين ، فإذا ضم إليها أربع كلمات البسملة كانت اثنتين وثلاثين ، إذا حسبت من أول النبوة وازتها السنة التاسعة عشرة من الهجرة ، وفيها كان فتح قيسارية الروم من بلاد الشام ، وبفتحها كان فتح جميع بلاد الشام ، لم يبق بها بلد إلا وهي في أيدي المسلمين ، فزالت عنها دولة الروم ، وفيها أيضاً كان فتح جلولاء من بلاد فارس ، وكان فتحاً عظيماً جداً هدّ أجنادهم وملوكهم ، ولذلك سمي فتح الفتوح ، وحصل حينئذ أعظم الخزي للفرس والروم الذين هم أحسد الحسدة ، لما كان لهم من العزة والقوة بالأموال والرجال ، وإن حسبت من الهجرة وازتها سنة انقراض ملك أعظم الحسدة الأكاسرة الذين شقق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرسل إلى عامله باذان - الذي كان استخلفه على بلاد اليمن - يأمره أن يغزو النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يقتله سبحانه في ليلة سماها ، فلما أتت تلك الليلة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم رسل باذان بذلك ، فرجعوا إلى باذان فأخبروه ، فقال : إن كان صادقاً فسيأتي الخبر في يوم كذا ، فأتى الخبر في ذلك اليوم بصدقه صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان ومن معه من الأبناء الذين كانوا في بلاد اليمن ، لم يتخلف منهم أحد ، وأوفد منهم وفداً على النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهم والله أعلم .