السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (5)

ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد ، وهو تمني زوال نعمة المحسود للحاسد ، أو غيره قال تعالى : { ومن شرّ حاسد } ، أي : ثابت الاتصاف بالحسد معروف فيه ، وأعظم الحساد الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات ، ثم قيد ذلك بقوله تعالى : { إذا حسد } ، أي : إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود ، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر فلا ضرر يعود منه على من حسده ؛ بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره .

وعن عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد ، وفي إشعار الآية إدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين ؛ لأنّ خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً .

فإن قيل : لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه ؟ أجيب : بأنّ النفاثات عرفت ؛ لأنه كل نفاثة شريرة ، ونكر غاسق ؛ لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضر .

وربّ حسد محمود ، وهو الحسد في الخيرات ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«لا حسد إلا في اثنتين » الحديث . وقال أبو تمام :

وما حاسد في المكرمات بحاسد ***

وقال آخر :

إن العلا حسن في مثلها الحسد ***

فائدة : قال بعض الحكماء : الحاسد بارز ربه من خمسة أوجه :

أولها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره .

ثانيها : أنه ساخط لقسمة ربه ، كأنه يقول : لم قسمت هذه القسمة ؟

ثالثها : إنه ضاد فعل الله تعالى ، إذ فضل ببره من شاء ، وهو يبخل بفضل الله تعالى .

رابعها : أنه خذل أولياء الله تعالى ، أو يريد خذلانهم ، وزوال النعمة عنهم .

خامسها : أنه أعان عدوّ الله إبليس ، والحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة ، ولا ينال في الدنيا إلا جزعاً وغماً ، ولا ينال في الآخرة إلا حزناً واحتراقاً ، ولا ينال من الله تعالى إلا بعداً ومقتاً .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم : آكل الحرام ، ومكثر الغيبة ، ومن كان في قلبه غلّ أو حسد للمسلمين » .

وقيل : المراد بالحاسد في الآية اليهود ، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم .

فإن قيل : قوله تعالى : { من شر ما خلق } تعميم في كل ما يستعاذ منه ، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد ؟ أجيب : بأنه قد خص شر هؤلاء من كل شر ، لخفاء أمرهم ، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم ، كأنما يغتال به ، وقالوا : شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر .

وأخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوّام أنه صلى الله عليه وسلم قال : «دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، ألا والبغضاء هي الحالقة » . فنسأل الله تعالى أن يحفظنا ومحبينا منه ، إنه كريم جواد .

ختام السورة:

وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما » . وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال : «وإنك إن تقرأ سورتين لا أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوّذتين » .

وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوّذون ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم { قل أعوذ برب الفلق } و{ قل أعوذ بربّ الناس } . وما رواه الزمخشري ولم يقله البيضاوي هنا ، لكن قال في آخر السورة الآتية : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى » حديث موضوع .