والأحاديث النبوية في الاستعاذة
ولقد تكرر في القرآن أمر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وبالتبعية للمؤمنين بالاستعاذة بالله مطلقا ، وبالاستعاذة به من الشيطان أحيانا ، حينما يحزبهم حازب ، أو تحدق بهم أزمة ، أو يشعرون بوسوسة شيطانية تحيك في صدورهم ، كما تكرر حكاية ذلك عن بعض أنبياء الله ، وعباده الصالحين ، كما ترى في الآيات التالية :
1- { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } الأعراف [ 200 ]{[1]} .
2- { قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } هود [ 47 ]{[2]} .
3- { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم98 إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون99 } النحل [ 98-99 ] .
4-{ قالت إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا } مريم [ 18 ]{[3]} .
5- { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين97 وأعوذ بك رب أن يحضرون98 } المؤمنون [ 97-98 ]{[4]} .
حيث ينطوي في هذه الآيات توكيد للمعنى الذي نقرره وهو قصد المعالجة الروحية بالاعتماد على الله تعالى وحده في ظروف الأزمات والمخاوف المتنوعة في حالاتها وأسبابها ، والاستعاذة من الشيطان خاصة متصلة بالحقيقة الإيمانية المغيبة عن الشيطان ووساوسه ، على ما شرحناه في سياق سورة التكوير شرحا يغني عن التكرار .
ولقد روى الشيخان والنسائي عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ){[5]} .
وروى الخمسة عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والجبن والبخل ، وضلع الدين ، وغلبة الرجال " {[6]} .
وروى الترمذي عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال : " يا عائشة ، استعيذي بالله من شر هذا ، فإن هذا الغاسق إذا وقب " {[7]} .
وروى الخمسة عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم ، ومن فتنة القبر ، وعذاب القبر ، ومن فتنة النار ، وعذاب النار ، ومن شر فتنة الغنى ، وأعوذ بك من فتنة الفقر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال . اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد . ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب " {[8]} .
وروى مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن زيد بن أرقم قال : ( لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والجبن والبخل ، والهرم ، وعذاب القبر . اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها " {[9]} .
روى أبو داود والنسائي عن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو : " اللهم إني أعوذ بك من الهدم ، وأعوذ بك من التردي ، وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم ، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت ، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا ، وأعوذ بك أن أموت لديغا " {[10]} . وروى المفسر البغوي -وهو من أئمة الحديث- حديثا رواه بطرقه في سياق الآية [ 98 ] من سورة النحل عن مطعم جاء فيه : ( إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قال : فكبر ، فقال : " الله أكبر ثلاث مرات ، والحمد لله كثيرا ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات ، ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ولمزه ونفخه ونفثه " .
وإلى هذا فقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات ) . وفي رواية ( كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ){[11]} .
وروى الترمذي عن أبي سعيد ( أن رسول الله كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان ، حتى نزلت المعوذتان ، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما ){[12]} .
وعلى كل حال فإن الأحاديث النبوية تتساوق مع التلقين القرآني الذي نوهنا به آنفا .
السورة ومدنيتها وسحر النبي صلى الله عليه وسلم
ولقد روى المفسر البغوي عزواً إلى ابن عباس وعائشة : أن هذه السورة وسورة الناس بعدها نزلتا معا في مناسبة سحر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم . ويروي رواية أخرى في ذلك عزواً إلى مقاتل والكلبي جاء فيها أنهما قالا : ( كان السحر في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة . وقيل : كانت العقد مغروزة بالإبرة ، فأنزل الله هاتين السورتين ، وهي إحدى عشرة آية : سورة الفلق خمس آيات ، وسورة الناس ست آيات ، كلما قرأ آية انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ) . وروي أنه لبث فيه ستة أشهر ، واشتد عليه ثلاث ليال ، فنزلت المعوذتان .
ويروي هذا المفسر في سياق ذلك عن عائشة{[13]} : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب حتى إنه ليخيل إليه أنه قد صنع شيئا وما صنعه ، وأنه دعا ربه ثم قال : " أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه " ؟ فقالت عائشة : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : جاءني رجلان ، فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال : الآخر : هو مطبوب . قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم . قال : فبماذا ؟ قال : في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر{[14]} . قال : فأين هو ؟ قال : في ذروان- وذروان بئر في بني زريق- قالت عائشة : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى عائشة فقال : " والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين " . قالت : فقلت له : يا رسول الله ، فهلا أخرجته ؟ فقال : أما أنا فقد شفاني الله ، فكرهت أن أثير على الناس به شرا " .
وقد قال البغوي بعد هذا الكلام : ( وروي أنه كان تحت صخرة في البئر ، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة ، فإذا فيه مشاطة رأسه ، وأسنان مشطه فيها ) .
ويروي هذا المفسر كذلك حديثا عن زيد بن أرقم جاء فيه{[15]} : ( سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود . قال : فاشتكى لذلك أياما . قال : فأتاه جبريل فقال : إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فاستخرجها ، فجاء بها ، فكلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله كأنما نشط من عقال . فما ذكر ذلك لليهود ، ولا رأوه في وجهه قط ) .
وليس في الحديثين صراحة بأن السورتين نزلتا في مناسبة ما ذكر فيهما من خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث يبقى ذلك كرواية مستقلة مروية عن ابن عباس وعائشة ومقاتل والكلبي .
وشيء مما ذكره ورواه البغوي وارد في كتب تفسير الخازن والطبرسي والنيسابوري وابن كثير .
ومما جاء في تفسير الأخير زيادة عزوا إلى ابن عباس وعائشة أنه كان غلاما من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدبت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه ، فأعطاها اليهود فسحروه فيها ، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم ، وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعره ، ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه .
ولم يذكر الطبري -وهو أقدم المفسرين المطولين الذين وصلت إلينا كتبهم- شيئا من ذلك في صدد سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا في صدد نزول المعوذتين .
ولم يذكر ذلك الزمخشري ولا النسفي .
ويمكن أن يكون هناك مفسرون آخرون لم يذكروه ؛ لأننا لم نطلع على جميع كتب التفسير . وليس في فصول التفسير التي عقدها البخاري ومسلم في صحيحهما شيء من ذلك أيضا ، مع التنبيه إلى أن هذين رويا حديثا عن عائشة قريبا في نصه على ما رواه البغوي ، وهذا نصه : ( قال : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له : لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله ، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول الله ، ثم دعا ، ثم دعا ، ثم قال : " يا عائشة ، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليّ ، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجليّ ، أو الذي عند رجليّ للذي عند رأسي : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب . قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم . قال : في أي شيء ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر . قال : فأين هو ؟ قال : في بئر ذي أروان " . قالت : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ، ثم قال : " يا عائشة ، والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين " . فقلت : يا رسول الله ، أفلا أحرقته ؟ قال : " لا . أما أنا فقد عافاني الله ، وكرهت أن أثير على الناس شرا ، فأمرت بها فدفنت " {[16]} .
وفي تفسير الخازن تعقيبا على نص قريب من هذا النص بهذه العبارة : ( إن للبخاري رواية أخرى ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وأن سفيانا قال : إن هذا أشد ما يكون من السحر ) .
وروايات البغوي والطبرسي والخازن والنيسابوري وابن كثير تقتضي أن يلتزموا القول أن السورتين مدنيتان . غير أنهم لم يفعلوا ذلك ، فقال البغوي : إنهما مكيتان ، وقيل : إنهما مدنيتان . وقال الطبرسي : أكثر الأقاويل أنهما مدنيتان ، وقيل : إنهما مكيتان . وقال النسابوري : إنهما مكيتان . ولم يذكر ابن كثير والخازن لهما صفة ، أما المفسرون الآخرون فمنهم من لم يصفهما بصفة مثل الطبري ، ومنهم من قال : إنهما مدنيتان . ومنهم من قال : إنهما مختلف فيهما ، مثل النسفي والزمخشري .
ومقتضى سكوت الطبري عما روي في صدد سحر النبي صلى الله عليه وسلم ونزولهما في مناسبته أن تكونا مكيتين .
ويلحظ أن المعوذتين ليستا معقودتين على السحر وأثره ، وأنهما تعلمان النبي التعوذ من شر الظلمات والحاسدين وشرار الخلق والنفاثات في العقد ووساوس الجن والإنس بأسلوب مطلق وعام . وهما مماثلتان لسور عديدة في القصر والتسجيع ، نزلت في وقت مبكر في مكة مما مر منه أمثلة .
ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكهما في سلك السور المكية المبكرة في النزول أيضا .
ونص الأحاديث الواردة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إشارة إلى أنهما نزلتا في هذه المناسبة ، ورواية نزول السورتين معا تبعدهما عن حادث السحر المروي ، وكل هذا يجعل مكيتهما هي الراجحة .
بقي أمر ما ذكرته الأحاديث التي توصف بالصحة من خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم وامتداد ذلك ستة أشهر حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، وقد صنع شيئا وما صنعه ، ويأتي النساء وما يأتيهن فعلا . ولو لم تكن الأحاديث موصوفة بالصحة لكان يمكن أن يقال : إن من المحتمل أن يكون الخبر من ذكريات ظرف طرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فيه بعض مظاهر تعب وقلق ، فظن المسلمون أن هذا من تأثير سحر اليهود على ما كان مستقرا في الأذهان من تأثير السحر ، وعلى ما كان معروفا من عداء اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومعاطاتهم للسحر ، مما أيدته آية سورة البقرة هذه : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } [ 102 ] ، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا المعوذتين مرة بعد مرة في هذا الظرف ، فعاد إليه نشاطه وسكون نفسه . ولكنا نقف حائرين أمام الحديث الذي روى واقعة السحر ، والذي وصف بالصحة .
ويظهر أن هذا الأمر كان موضوع جدل فيما إذا كان للسحر تأثير حقيقي في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيما إذا كان هذا إذا صح يتسق مع العصمة النبوية ؛ حيث يكون إمكان لصدور شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون وحيا ولا صوابا ؛ حيث رأينا الخازن يتعرض لهذه النقطة فيقول فيما يقول : " قد أنكر المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه ، وزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها ، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع . ورد على ذلك بأن هذا الزعم باطل ؛ لأن الدلائل القطعية والنقلية قامت على صدقه صلى الله عليه وسلم وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ ، والمعجزة شاهدة بذلك . وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل ، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا ، وهو ما يعرض للبشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له ، وقد قيل : إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ، وليس بواطئ ، وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام ، فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة ولا حقيقة له . وقيل : إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ، ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله ، فتكون اعتقاداته على السواء ) .
وقال القاضي عياض على ما جاء في تفسير الخازن : ( وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه ، لا على قلبه وعقله واعتقاده ، وليس في ذلك ما يوجب لبسا على الرسالة ، ولا طعنا لأهل الزيغ والضلالة ) .
ومن الصعب أن يقال : إن هذا مقنع ومزيل للحيرة . ويظهر أن هذا الأمر قد أشكل على المفسر الطبرسي ، فأبى أن يقبله كما هو ، وقال في سياق تفسير الآية [ 102 ] من سورة البقرة : ( إن هذا من الأخبار المفتعلة ) . وقال في سياق تفسيره لسورة الفلق : ( إن هذا لا يجوز ؛ لأن هذا يجعل وصف المسحور متحققا بالنبي ، مع أن الله تعالى قد أبى ذلك حينما قاله الكفار فيه ، فقال : { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا8 انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا ) الفرقان [ 8-9 ]{[17]} ثم قال : ولكن يمكن أن يكون اليهودي أو بناته على ما روي اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه . وأطلع الله نبيه على ما فعلوه من التمويه حتى استخرج ، وكان ذلك دلالة على صدقه . وكيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم ، ولو قدروا على ذلك لقتلوه وقتلوا كثيرا من المؤمنين من شدة عداوتهم له ) . وكلام الطبرسي قوي ، ولا سيما احتجاجه برد القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة المسحور كما هو المتبادر .
ومثل هذا القول رواه المفسر القاسمي عن الشهاب ، عن أبي بكر الأصم الذي قال : ( إن حديث سحره صلوات الله عليه المروي متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة : إنه مسحور ، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه ) .
ويروي المفسر القاسمي كذلك عن الرازي عن القاضي أنه قال : ( هذه الرواية باطلة ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول : { والله يعصمك من الناس } المائدة [ 67 ] ، و{ لا يفلح الساحر حيث أتى } طه [ 69 ] ، ولأن تجويز ذلك يفضي إلى القدح في النبوة . ولو صح لكان من الممكن أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين ، وأن يحصلوا على الملك العظيم لأنفسهم وكل ذلك باطل . وكان الكفار يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسحور ، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ، ولحصل فيه عليه السلام العيب ، وذلك غير جائز ) .
وقد عقب القاسمي على هذه الأقوال قائلا : إنه لا غرابة في أن لا يقبل الخبر لما برهن عليه ، وإن كان مخرجا في الصحاح ، وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالما من النقد سندا أو معنى كما يعرفه الراسخون . والمناقشة في خبر الآحاد معروفة عند الصحابة{[18]} . ثم أخذ يورد أقوالا للأئمة الغزالي وابن تيمية والفناري في جواز رد خبر الآحاد وعدم الأخذ به ، وخلافه إذا قامت الأدلة عليه .
وفي كل ذلك ما فيه من قوة ووجاهة ، وقد أسهبنا في هذه المسألة في طبعة الكتاب الجديدة ؛ لأننا رأيناها مهمة يحسن تمحيصها سواء من ناحية وقوعها ، أو من ناحية صلتها بصفة وعصمة النبوة والله تعالى أعلم{[19]} .
هذا ، ولقد روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد كبائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلماء القرآن كان يحك هذه السورة وسورة الناس من مصحفه ويقول : إنهما ليستا سورتين من القرآن ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما ، ويأمر بذلك .
وقد استوعب ابن كثير الآثار الواردة في هذا الموضوع ، فأورد أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد والبخاري والحافظ ابن يعلى عن زر بن حبيش مفادها : أن هذا قال لأبي بن كعب- وهو من كبار علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن – إن ابن مسعود يحك المعوذتين من المصحف ، ولا يكتبهما في مصحفه ، فأجابه : ( أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل قال له : { قل أعوذ برب الفلق } . فقالها . { قل أعوذ برب الناس } فقالها . فنحن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ) . وأن زرا سأل ابن مسعود فأجابه قائلا : ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال : قيل لي ، فقلت لكم ، فقولوا ) . وأورد ابن كثير أحاديث عديدة أخرى أخرجها الإمام أحمد ومسلم والنسائي والإمام مالك تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المعوذتين في مناسبات عديدة كسورتين قرآنيتين ، وكان يقرأهما ، ويأمر بقراءتهما على هذا الاعتبار في الصلاة وغيرها .
والأحاديث التي أوردناها في مطلع السورة صريحة الدلالة على ذلك ، كما أن الحديث الذي أوردناه في سياق التفسير ، والذي رواه الترمذي عن أبي سعيد صريح الدلالة على ذلك ، ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث وقال : ابن ماجه والنسائي أخرجاه بالإضافة إلى الترمذي .
ولقد روى ابن كثير عن الأعمش قولا جاء فيه أن من المحتمل أن يكون ابن مسعود قد رجع عن قوله إلى قول الجماعة ؛ لأن الصحابة أثبتوا السورتين في المصاحف الأئمة ، وأنفذوها إلى سائر الآفاق ؛ حيث يستخلص من ذلك ثبوت المعوذتين كسورتين قرآنيتين عند جميع المسلمين بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أشار غير واحد من المفسرين إلى هذه المسألة ، وأورد بعض ما أورده ابن كثير مقتضبا مؤيدا للنتيجة المستخلصة . وقد نقل السيوطي{[20]} أقوالا للرازي والنووي وغيرهما مؤيدة لهما ، حتى إن النووي ذهب إلى إنكار ما نسب إلى ابن مسعود ، ووصفه بأنه باطل .