قوله تعالى : { قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون* وأخي هارون هو أفصح مني لساناً } وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه ، { فأرسله معي ردءاً } عوناً ، يقال ردأته أي : أعنته ، قرأ نافع { رداً } بفتح الدال من غير همز طلباً للخفة ، وقرأ الباقون بسكون الدال مهموزاً ، { يصدقني } قرأ ابن عمرو وعامر وحمزة : برفع القاف على الحال ، أي : ردءاً مصدقاً ، وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والتصديق لهارون في قول الجميع ، قال مقاتل : لكي يصدقني فرعون ، { إني أخاف أن يكذبون } يعني فرعون وقومه .
ثم أضاف إلى ذلك قوله : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } أى هو أقدر منى على المدافعة عن الدعوة وعلى تبيان الحق وتوضيحه .
{ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } والردء : العون والنصير .
يقال : ردأته على عدوه وأردأته ، إذا أعنته عليه ، وردأت الجدار إذا قويته بما يمنعه من أن ينقض .
أى : فأرسل أخى هارون معى إلى هؤلاء القوم ، لكى يساعدنى ويعيننى على تبليغ رسالتك ، ويصدقنى فيما سأدعوهم إليه ، ويخلفنى إذا ما اعتدى على . { إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } إذا لم يكن معى أخى هارون يعيننى ويصدقنى .
والمتأمل فى هذا الكلام الذى ساقه الله - تعالى - على لسان موسى - عليه السلام - يرى فيه إخلاصه فى تبليغ رسالة ربه ، وحرصه على أن يؤتى هذا التبليغ ثماره الطيبة على أكمل صورة ، وأحسن وجه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت تصديق أخيه ما الفائدة فيه ؟
قلت : ليس الغرض بتصديقه أن يقول له صدقت ، أو يقول للناس صدق أخى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ، ويبسط القول فيه ، ويجادل به الكفار كما يصدق القول بالبرهان . وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك ، لا لقوله : صدقت ، فإن سحبان وباقلا يستويان فيه .
{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا } ، وذلك أن موسى ، عليه السلام ، كان في لسانه لثغة ، بسبب ما كان تناول تلك الجمرة ، حين خُيّر بينها وبين التمرة أو الدرّة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، فحصل فيه شدة في التعبير ؛ ولهذا قال : { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } [ طه : 27 - 32 ] أي : يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم ، وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد . ولهذا قال : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا [ يُصَدِّقُنِي ] }{[22314]} ، أي : وزيرًا ومعينًا ومقويًّا لأمري ، يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل ؛ لأن خبر اثنين أنجع في النفوس من خبر واحد ؛ ولهذا قال : { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } .
وقال محمد بن إسحاق : { رِدْءًا يُصَدِّقُنِي } أي : يبين لهم عني ما أكلمهم به ، فإنه يفهم [ عني ]{[22315]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّ إِنّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } .
يقول تعالى ذكره : قال موسى : ربّ إني قتلت من قوم فرعون نفسا ، فأخاف إن أتيتهم فلم أبن عن نفسي بحجة أن يقتلون ، لأن في لساني عقدة ، ولا أبين معها ما أريد من الكلام . وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ، يقول : أحسن بيانا عما يريد أن يبينه فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءا يقول : عونا . يصدّقني : أي يبين لهم عني ما أخاطبهم به . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق وأخِي هارُونُ هُوَ أفْصَحُ مِنّي لِسانا ، فَأرْسِلْهُ مَعِي رِدْءا يُصَدّقُنِي : أي يبين لهم عني ما أكلمهم به ، فإنه يفهم ما لا يفهمون . وقيل : إنما سأل موسى ربه يؤيده بأخيه ، لأن الاثنين إذا اجتمعا على الخبر ، كانت النفس إلى تصديقهما ، أسكن منها إلى تصديق خبر الواحد . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءا يُصَدقُنِيّ لأن الاثنين أحرى أن يصدّقا من واحد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءا يُصَدّقُنِي قال عونا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله رِدْءا يُصَدّقُنِي : أي عونا .
وقال آخرون : معنى ذلك : كيما يصدقني . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس رِدْءا يُصَدّقُنِي يقول : كي يصدّقني .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءا يُصَدّقُنِي يقول : كيما يصدّقني .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : رِدْءا يُصَدّقُنِي يقول : كيما يصدّقني . والردء في كلام العرب : هو العون ، يقال منه : قد أردأت فلانا على أمره : أي أكفيته وأعنته .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يُصَدّقُنِي فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة : «رِدْءا يُصَدّقْنِي » بجزم يصدقني . وقرأ عاصم وحمزة : «يَصْدُقُنِي » برفعه ، فمن رفعه جعله صلة للردء ، بمعنى : فأرسله معي ردءا من صفته يصدّقني ومن جزمه جعله جوابا لقوله فأرسله ، فإنك إذا أرسلته صدّقني ، على وجه الخبر . والرفع في ذلك أحبّ القراءتين إليّ ، لأنه مسألة من موسى ربه أن يرسل أخاه عونا له بهذه الصفة .
وقوله : إنّي أخافُ أنْ يُكَذّبُونِ يقول : إني أخاف أن لا يصدقون على قولي لهم إني أرسلت إليكم .
{ وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا } معينا وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء ، وقرأ نافع " ردا " بالتخفيف { يصدقني } بتخليص الحق وتقرير الحجة وتزييف الشبهة . { إني أخاف أن يكذبون } ولساني لا يطاوعني عند المحاجة ، وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب ، وقرأ عاصم وحمزة { يصدقني } بالرفع على أنه صفة والجواب محذوف .
كان موسى عليه السلام قد امتحن بمخاوف فطلب شد العضد بأخيه { هارون } لأنه كان فصيح اللسان سجيح الخلق ، وقرأ الجمهور «ردءاً » بالهمز ، وقرأ نافع وحده «رداً » بتنوين الدال دون همز وهي قراءة أبي جعفر والمدنيين وذلك على التخفيف من ردء ، والردء الوزر المعين والذي يسند إليه في الأمر ، وذهبت فرقة إلى أنها من معنى الزيادة كما قال الشاعر [ القرطبي ] : [ الطويل ]
وأسمر خطّي كأن كعوبه . . . نوى القسب قد أردى ذراعاً على العشر{[1]}
وهذا على ترك الهمز وأن يكون وزنه فعلا ، وقرأ الجمهور «يصدقْني » بالجزم وذلك على جواب { فأرسله } ، وقرأ عاصم وحمزة «يصدقني » أي مصدقاً فهو صفة للردء أو حال .