اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَخِي هَٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّي لِسَانٗا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِيَ رِدۡءٗا يُصَدِّقُنِيٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} (34)

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } ، لأنه كان في لسانه حبسة إما{[40277]} في أصل الخلقة وإما لأنه وضع الجمرة في فيه عندما ( نتف لحية ){[40278]} فرعون{[40279]} .

قوله «هُوَ أَفْصَحُ » الفصاحة لغةً الخلوصُ ، ومنه : فصُحَ وأَفْصَحَ فهو مفصِحٌ وفصيحٌ{[40280]} ، أي : خلُصَ من الرِّغوة ، ومنه قولهم :

3996 - وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ{[40281]} *** . . .

ومنه : فصُحَ الرَّجُلُ جادت لغته ، وأفصح : تكلَّم بالعربية ، وقيل : بالعكس{[40282]} ، وقيل : الفصيح ، الذي ينطق ، والأعجم : الذي لا ينطق ، ومن هذا استعير أَفصحَ الصُّبحُ ، أي : بَدَا ضوؤُهُ ، وأفصح النصراني : دنا فصحُه بكسر الفاء ، وهو عيد لهم{[40283]} .

وأما في اصطلاح أهل البيان ، فهو خُلُوص الكلمة من تنافر الحروف{[40284]} ، كقوله : تَرَعَى الهُعْخُعَ{[40285]} ، ومن{[40286]} الغرابة{[40287]} كقوله :

3997 - وَمَرْسِناً مُسَرَّجَا{[40288]} *** . . .

ومن مخالفة القياس اللُّغوي كقوله :

3998 - العَلِيِّ الأَجْلَلِ{[40289]} *** . . .

وخلوص الكلام من ضعف التأليف كقوله :

3999 - جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ{[40290]} *** . . .

ومن تنافر الكلمات{[40291]} كقوله :

4000 - وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانِ قَفْرٍ *** وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ{[40292]}

ومن التعقيد وهو إما إخلال نظم الكلام فلا يُدْرَى كيف يتوصل إلى معناه ، كقوله :

4001 - وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكاً *** أبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُه{[40293]}

وإما عدم انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهِر كقوله :

4002 - سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا *** وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا{[40294]}

وخلوص ( المتكلم من ){[40295]} النطق بجميع ذلك ، فصارت الفصاحة يوصف بها ثلاثة أشياء : الكلمةُ والكلامُ والمتكلمُ ، بخلاف البلاغة فإنه لا يوصف بها إلا الأخيران ، وهذا ليس ( موضع ) إيضاحه وإنما ذكرناه تنبيهاً على أصله{[40296]} ، ولساناً : تمييز .

قوله «رِدْءاً » ( منصوب ){[40297]} على الحال{[40298]} ، والرِّدْءُ : العَوْنُ{[40299]} وهو فعل بمعنى مفعول كالدِّفْء بمعنى المدفوء به{[40300]} ، وَرَدَأتُهُ على عدوه أي{[40301]} : أَعنتُهُ عليه{[40302]} ، وردأْتُ الحائط : دعمتُهُ بخشبةٍ لِئلاً يسقط{[40303]} ، وقال النحاس : يقال : رَدَأْتُهُ وَأَرْدَأْتُهُ{[40304]} ، وقال سلامة بن جندل{[40305]} :

4003 - وَرِدْئِي كل أَبْيَضَ مَشْرَفيٍّ *** شَحِيذَ الحدِّ أبيض ذِي فُلُولِ{[40306]}

وقال آخر :

4004 - ألم تر أنَّ أَصْرَمَ كان رِدْئِي *** وَخَيْرُ النَّاسِ في قُلٍّ ومَالِ{[40307]}

وقرأ نافع بغير همزة «رِداً » بالنقل ، وأبو جعفر كذلك إلا أنه لم ينوِّنْه ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف{[40308]} ، ونافع ليس من قاعدته النقل{[40309]} في كلمة إلاَّ هُنا ، وقيل : ليس نَقْلٌ وإنما هو من أردى على كذا ، أي : زَادَ{[40310]} ، قال :

4005 - وَأَسْمَرَ خَطِّيّاً كَأَنَّ كُعُوبَهُ *** نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْدَى ذِرَاعاً على العَشْرِ{[40311]}

أي : زاد ، وأنشده الجوهري ( قد أَرْبَى ){[40312]} ، وهو بمعناه .

قوله : «يُصَدِّقُنِي » قرأ حمزة وعاصم بالرفع على الاستئناف أو الصفة ل «رِدْءاً » أو{[40313]} الحال من ( هاء ) «أَرْسِلْهُ » ، أو من الضمير في «رِدْءاً » ، أي : مصدِّقاً ، والباقون بالجزم جواباً للأمر{[40314]} ، وزيد بن علي وأُبيّ «يُصَدِّقُونِي » ، أي : فرعون وملأه ، قال ابن خالويه : هذا شاهد لِمَنْ جزم ، لأنه لو كان رفعاً ، لقال : «يُصَدِّقُونَنِي »{[40315]} . يعني بنونين ، وهذا سهو من ابن خالويه ، لأنه متى اجتمعت نون الرفع مع نون الوقاية جازت أوجه : أحدها : الحذف ، فهذا يجوز أن يكون مرفوعاً ، وحذفت نونه{[40316]} ، فمن رفع القاف فالتقدير ردءاً يصدقني ، ومن جزم كان على معنى الجزاء ، يعني : إن أرسلته صدَّقني ، ونظيره : { فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [ مريم : 5 - 6 ] ، وروى السُّدِّي عن بعض شيوخه : { ردءاً كَيْمَا{[40317]} يُصَدِّقني }{[40318]} .

والتصديق لهارون في قول الجميع ، وقال مقاتل : لكي يُصدِّقنِي فرعون { إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } يعني فرعون وقومه{[40319]} ، وقال{[40320]} ابن الخطيب : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول الناس : صَدَقَ مُوسَى ، وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوه الدلائلِ ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ألا ترى إلى قوله { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ } ، وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا مجرد قوله : «صَدقت »{[40321]} .

فصل :

قال السُّدِّيّ : إنَّ{[40322]} نبيَّيْن وآيتين أقوى من نبيٍّ واحدٍ وآية واحدة قال القاضي : والذي قاله من جهة العادة أقوى ، فأمَّا مِنْ حيث الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين{[40323]} .


[40277]:إما: سقط من ب.
[40278]:ما بين القوسين في النسختين: تيقظ. والتصويب من الفخر الرازي.
[40279]:انظر الفخر الرازي 24/249.
[40280]:في ب: فصيح ومفصح.
[40281]:عجز بيت من بحر المقتضب، قاله نضلة السلمي، وصدره: فلم يخشوا مصالته عليهم وهو في الحماسة البصرية 1/227، اللسان (فصح) والشاهد فيه قوله: (الفصيح) فإنه هنا بمعنى الخالص، ويروى: الصريح.
[40282]:أي: الذي يتكلم بغير العربية، ويفهم عنه سامعه.
[40283]:انظر اللسان (فصح).
[40284]:التنافر منه تكون الكلمة بسببه متناهيةً في الثقل على اللسان، وعسر النطق بها، كما روي: أن أعرابيّاً سئل عن ناقته، فقال: تركتها ترعى الهعخع ومنه ما دون ذلك كلفظ مستشزر في قول امرئ القيس: غدائره مستشزراتٌ إلى العلا انظر الإيضاح (5-6).
[40285]:الهعخع: اسم نبات. وهذه الكلمة تنافرت حروفها فهي ثقيلة على اللسان. الإيضاح (5).
[40286]:في ب: وأما.
[40287]:الغرابة: أن تكون الكلمة وحشيَّةً، لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفته إلى أن ينقَّر عنها في كتب اللغة المبسوطة، كما روي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار، فاجتمع عليه الناس فقال: (ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكؤكم على ذي جنَّة؟ افرنقعوا عنِّي) أي: اجتمعتم تنحوا أو يخرج لها وجه بعيد، كالبيت الذي استشهد به المؤلف. انظر الإيضاح (6).
[40288]:جزء رجز قال العجاج في وصف شعر محبوبته، وتمامه: وفاحماً ومرسناً مسرَّجا وهو في الإيضاح للقزويني(6)، معاهد التنصيص 1/6، الفاحم: الأسود، و(فاحماً) أي: شعراً فاحماً، فحذف الموصوف اكتفاء بالصفة. المرسن: بكسر السين وفتحها: الأنف، وجمعه المراسين، وأصله في ذوات الحوافر ثم استعمل للإنسان. وقوله: (مسرَّجا) اختلف في تخريجه: فقيل: نسبة إلى السيوف السريجية، فيكون قد وصفه بالاستقامة والاستواء، وإما من سرجه تسريجاً، أي: حسنه، فيكون موصوفاً بالحسن، ولهذا كان استعماله غريباً بدون قرينة. وهو موطن الشاهد.
[40289]:جزء رجز قاله أبو النجم، وتمامه: الحمد لله العليّ الأجلل. وهو في الخصائص 3/87، 93، المنصف 1/339، اللسان (جلل) الإيضاح للقزويني (6) المقاصد النحوية 4/595، شرح التصريح 2/403، الهمع 2/157، الأشموني 4/349، معاهد التنصيص 1/7. والشاهد فيه قوله: (الأجلل) بدون إدغام، فهو مخالف للقياس، فإن القياس (الأجل) بالإدغام.
[40290]:صدر بيت من بحر الكامل، ينسب لأبي الأسود، أو النابغة، أو عبد الله بن همارق، وعجزه: جزاء الكلاب العاويات وقد فعل وهو في الخصائص 1/294، أمالي ابن الشجري 1/102، ابن يعيش 1/76، المقاصد النحوية 2/487، الإيضاح للقزويني (7)، التصريح 1/283، الهمع 1/66، الأشموني 2/59، الخزانة 1/277، الدرر 1/44. والشاهد فيه عود الضمير في "ربُّه" على متأخر لفظاً ورتبة وهو (عديّ) والأخفش وابن جني أجازاه خلافاً للجمهور، وفي البيت تخريج آخر: وهو أن الضمير يعود على المصدر المفهوم، أي: الجزاء.
[40291]:التنافر منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها متتابعة كما في البيت الذي أنشده المؤلف، ومنه ما دون ذلك كما في قول أبي تمام: كريمٍ متى أمدحه أمدحه والروى *** معي وإذا ما لمته لمته وحدي انظر الإيضاح (7-8).
[40292]:البيت من بحر الرجز، لم أهتد إلى قائله. وهو في الإيضاح (5)، معاهد التنصيص 1/34 والشاهد فيه عدم فصاحة الكلام لثقلها على اللسان وعسر النطق بها متتابعة.
[40293]:البيت من بحر الطويل، قال الفرزدق، وهو في الخصائص 1/146، 329، 2/393، الإيضاح (8) معاهد التنصيص 1/16. والشاهد فيه التعقيد في النظم، وهو عدم فهم المراد من الكلام على الوضوح، وذلك لخلل في نظم الكلام، فكان حقه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلاَّ مملكاً أبو أمه أبوه، ففصل بين (أبو أمه) وهو مبتدأ، و(أبوه) وهو خبره بـ (حيّ) وهو أجنبي، وكذلك فصل بين (حيّ) و(يقاربه) وهو نعت (حيّ) بـ (أبوه) وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه، فهو كما تراه في غاية التعقيد.
[40294]:البيت من بحر الطويل قاله العباس بن الأحنف، وليس في ديوانه، وهو في الإيضاح (9)، معاهد التنصيص 1/19. والشاهد فيه أنه أراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود، لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقاً من غير اعتبار شيء آخر، وليس الأمر كذلك، لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها، فلا يكون كناية عن المسرة، وإنما يكون كناية عن البخل.
[40295]:ما بين القوسين سقط من ب.
[40296]:انظر هذه المباحث في الإيضاح للقزويني (5-11).
[40297]:منصوب: سقط من ب.
[40298]:انظر التبيان 2/1020.
[40299]:في ب: القرن.
[40300]:انظر الكشاف 3/166، البحر المحيط 7/103.
[40301]:أي: سقط من ب.
[40302]:انظر مجاز القرآن 2/104.
[40303]:انظر اللسان (ردأ).
[40304]:قال النحاس: (مشتق من أردأته، أي: أعنته، وقد حكي ردأته ردءاً) إعراب القرآن 3/238.
[40305]:هو سلامة بن جندل، شاعر جاهلي من الفرسان اشتهر بوصف الخيل. المنجد 304.
[40306]:البيت من بحر الوافر وهو في الكشاف 3/116، البحر المحيط 7/103، شرح شواهد الكشاف (100). مشرفيّ: نسبة إلى مشارف اليمن، وقرى منها، وقيل: من الشام. شحيذ الحد: من شحذ شحذاً: أحدَّ سنانه، الفلول: جمع فلّ- بالفتح- وهو كسر في حد السيف، أي: به فلول من قراع الكتائب.
[40307]:البيت من بحر الوافر لم أهتد إلى قائله، وهو في القرطبي 13/286. أصرم: يقال: رجل أصرم إذا افتقر وبقي متماسكاً.
[40308]:السبعة (494) الحجة لابن خالويه (278)، البحر المحيط 7/118، الإتحاف (342).
[40309]:في ب: الفعل. وهو تحريف.
[40310]:ونسب هذا القول إلى مسلم بن جندب. انظر القرطبي 13/286.
[40311]:البيت من بحر الطويل عزي في اللسان (ردى) إلى أوس، وفي اللسان (قسب): (قال ابن بري: هذا البيت يذكر أنه لحاتم الطائي ولم أجده في شعره) ونسبه البغدادي في الخزانة إلى عتبة بن مرداس. وقد تقدم.
[40312]:انظر الصحاح (ربى) 6/2362.
[40313]:في ب: إذ. وهو تحريف.
[40314]:السبعة 494، الكشف 2/173، البيان 2/233، التبيان 2/1020، البحر المحيط 7/118 النشر 2/341، الإتحاف (343).
[40315]:المختصر (114)، وانظر أيضاً البحر المحيط 7/118.
[40316]:على خلاف بين النحاة في المحذوف النون الأولى أو الثانية، فمذهب سيبويه أنها نون الرفع ورجحه ابن مالك، وذهب أكثر المتأخرين إلى أن المحذوف نون الوقاية، وعليه الأخفش الأوسط والصغير والمبرد، وأبو علي وابن جني. والوجه الثاني: الفك. والثالث: الإدغام. انظر الهمع 1/51-52.
[40317]:في ب: فيما.
[40318]:انظر الفخر الرازي 24/249.
[40319]:المرجع السابق.
[40320]:في ب: قال.
[40321]:الفخر الرازي 24/249.
[40322]:إنَّ: تكملة من الفخر الرازي.
[40323]:انظر الفخر الرازي 24/249.