مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَخِي هَٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّي لِسَانٗا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِيَ رِدۡءٗا يُصَدِّقُنِيٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} (34)

وأخي هارون هو أفصح مني لسانا } لأنه كان في لسانه حبسة ، إما في أصل الخلقة ، وإما لأجل أنه وضع الجمرة في فيه عندما نتف لحية فرعون .

أما قوله : { فأرسله معي ردءا يصدقني } ففيه أبحاث :

البحث الأول : الردء اسم ما يستعان به ، فعل بمعنى مفعول به ، كما أن الدفء اسم لما يدفأ به ، يقال ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشب أو غيره لئلا يسقط .

البحث الثاني : قرأ نافع ( ردءا ) بغير همز والباقون بالهمز ، وقرأ عاصم وحمزة ( يصدقني ) برفع القاف ، ويروى ذلك أيضا عن أبي عمرو والباقون بجزم القاف وهو المشهور عن أبي عمرو ، فمن رفع فالتقدير ردءا مصدقا لي ، ومن جزم كان على معنى الجزاء ، يعني أن أرسلته صدقني . ونظيره قوله : { فهب لي من لدنك وليا يرثني } بجزم الثاء من يرثني . وروى السدي عن بعض شيوخه ردءا كيما يصدقني .

البحث الثالث : الجمهور على أن التصديق لهارون ، وقال مقاتل : المعنى كي يصدقني فرعون والمعنى أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان ، فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون .

البحث الرابع : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت ، أو يقول للناس صدق موسى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ، ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ، ألا ترى إلى قوله : { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي } وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله : ( صدقت ) .

البحث الخامس : قال الجبائي : إنما سأل موسى عليه السلام أن يرسل هارون بأمر الله تعالى ، وإن كان لا يدري هل يصلح هارون للبعثة أم لا ؟ فلم يكن ليسأل ما لا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة ، ويحتمل أيضا أن يقال إنه سأله لا مطلقا بل مشروطا على معنى ، إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقوله الداعي في دعائه .

البحث السادس : قال السدي : إن نبيين وآيتين أقوى من نبي بواحد وآية واحدة . قال القاضي والذي قاله من جهة العادة أقوى ، فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين ، لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم ، وإن لم ينظر فالحالة واحدة ، هذا إذا كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة ، فإما إذا اختلفت وأمكن في إحداهما إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى ، فغير ممتنع أن يختلفا ويصلح عند ذلك أن يقال إنهما بمجموعهما أقوى من إحداهما على ما قاله السدي ، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون عليهما السلام ، لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة .