معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ} (22)

قوله تعالى : { ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم } يعني : اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما ، { وألوانكم } أبيض وأسود وأحمر ، وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة ، { إن في ذلك لآيات للعالمين } قرأ حفص : { للعالمين } بكسر اللام .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ} (22)

{ 22 } { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ }

والعَالِمُون هم أهل العلم الذين يفهمون العبر ويتدبرون الآيات . والآيات في ذلك كثيرة : فمن آيات خلق السماوات والأرض وما فيهما ، أن ذلك دال على عظمة سلطان اللّه وكمال اقتداره الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة ، وكمال حكمته لما فيها من الإتقان وسعة علمه ، لأن الخالق لا بد أن يعلم ما خلقه { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } وعموم رحمته وفضله لما في ذلك من المنافع الجليلة ، وأنه المريد الذي يختار ما يشاء لما فيها من التخصيصات والمزايا ، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويوحد لأنه المنفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة ، فكل هذه أدلة عقلية نبه اللّه العقول إليها وأمرها بالتفكر واستخراج العبرة منها .

{ و } كذلك في { اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } على كثرتكم وتباينكم مع أن الأصل واحد ومخارج الحروف واحدة ، ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كل وجه ولا لونين متشابهين من كل وجه إلا وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز . وهذا دال على كمال قدرته ، ونفوذ مشيئته .

و [ من ]{[645]} عنايته بعباده ورحمته بهم أن قدر ذلك الاختلاف لئلا يقع التشابه فيحصل الاضطراب ويفوت كثير من المقاصد والمطالب .


[645]:- زيادة يقتضيها السياق.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ} (22)

ثم ذكر - سبحانه - آية ثالثة فقال : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض } أى : ومن آياته الدالة على قدرته التامة على كل شئ ، خلقه للسموات والأرض بتلك الصورة البديعة { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } أى : واختلاف لغاتكم فهذا يتكلم بالعربية ، وآخر بالفارسية وثالث بالرومية . . إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده من اللغات ، بل إن الأمة الواحدة تجد فيها عشرات اللغات التى يتكلم بها أفرادها ، ومئات اللهجات { وَأَلْوَانِكُمْ } أى : ومن آياته كذلك ، اختلاف ألوانكم ، فهذا أبيض ، وهذا أسود ، وهذا لا أصفر ، وهذا أشقر . . مع أن الجميع من أب واحد وأم واحدة وهما آدم وحواء . بل إنك لا تجد شخصين يتطابقان تطابقا تاما فى خلقتهما وشكلهما .

قال صاحب الكشاف : الألسنة : اللغات . او اجناس النطق واشكاله . خالف - عز وجل - بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين فى همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة . . ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله ، وكذلك الصور وتخطيطها ، والألوان وتنويعها ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف ، ولو اتفقت وتشاكلت ، وكانت ضربا واحدا ، لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت مصالح كثيرة . . وهم على الكثرة التى لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون .

{ إِنَّ فِي ذلك } الذى وضحناه لكم { لآيَاتٍ } بينات { لِّلْعَالَمِينَ } - بفتح اللام - وهى قراءة الجمهور ، أى : إن فى ذلك لآيات لجميع أصناف العالم من بار وفاجر ، ومؤمن وكافر .

وقرأ حفص - بكسر اللام - أى إن فى ذلك لآيات لأولى العلم والفهم من الناس .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ} (22)

17

( ومن آياته خلق السماوات والأرض ، واختلاف ألسنتكم وألوانكم . إن في ذلك لآيات للعالمين ) . .

وآية خلق السماوات والأرض كثيرا ما يشار إليها في القرآن ، وكثيرا ما نمر عليها سراعا دون أن نتوقف أمامها طويلا . . ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق .

إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق ؛ الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل . هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات . تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل ! ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات ؛ وما بينها من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب ؛ وتجعل كل شيء في أمرها بمقدار .

ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام ، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها ؛ والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها . . فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان ؛ وما عرف عنه إلا أقل من القليل ، ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل !

هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعا . بينما نتحدث طويلا . وطويلا جدا . عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان ؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان ! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر . ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء ! من العلماء !

ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان . . بين بني الإنسان . ولا بد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض . فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات ذلك الاختلاف الناشى ء من طبيعة وضع الأرض الفلكي ، ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان . مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان .

وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والألوان ؛ ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله ، وآياته في خلق السماوت والأرض . وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية . ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن . ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون . ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) . وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لا يراها إلا الذين يعلمون : ( إن في ذلك لآيات للعالمين ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ} (22)

هذه الآية الثالثة وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها ؛ فخلقُ السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية ، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقاربة المتلازمة كالليل والنهار والفصول ، والمتضادة كالعُلّو والانخفاض .

وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات ، وخُص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية ، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نَجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض ، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة ، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض ، واختلاف مسامته أشعة الشمس لها ؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض . ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيد له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض . وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحواللٍ عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية ، فلذلك ذكرت هذه الآية عقب الآيتين السابقتين حسب الترتيب السابق . وقد ظهر وجه المقارنة بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف ألسن البشر وألوانهم ، وتقدم في سورة آل عمران ( 190 ) قوله { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } والألسنة : جمع لسان ، وهو يطلق على اللغة كما في قوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] وقوله { لسان الذي يُلْحِدون إليه أعجمي } [ النحل : 103 ] .

واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوّنه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات ، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة . فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد ، وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة ، وتطرَّق التغير إلى لغاتهم تطرقاً تدريجياً ؛ على أن توسُّع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافاً في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقاً عليه بينها باختلاف لهجات النطق ، واختلاف التصرف ، فكان لاختلاف الألسنة موجبان . فمحل العبرة هو اختلاف اللغات مع اتحاد أصل النوع كقوله تعالى : { يُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } [ الرعد : 4 ] ولما في ذلك الاختلاف من الأسرار المقتضية إياه . ووقع في الإصحاح الحادي عشر من « سفر التكوين » ما يوهم ظاهره أن اختلاف الألسن حصل دفعة واحدة بعد الطوفان في أرض بابل وأن البشر تفرقوا بعد ذلك .

والظاهر أنه وقع في العبارة تقديم وتأخير وأن التفرق وقع قبل تبلبل الألسن . وقد علل في ذلك « الإصحاح » بما ينزه الله عن مدلوله .

وقيل : أراد باختلاف الألسنة اختلاف الأصوات بحيث تتمايز أصوات الناس المتكلمين بلغة واحدة فنعرف صاحب الصوت وإن كان غير مرئي . وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية أيضاً لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم ، وله لون واحد لا محالة ، ولعله البياض المشوب بحمرة ، فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة ، ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض ، ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلويناً في الجلد ، ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلاً على اختلاف النوع بل هو نواع واحد ، فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسواد ، وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في « أرجوزته » في الطب بقوله :

بالنزج حرّ غيَّر الأجساد *** حتى كسا بياضها سَــوادا

والصقلبُ اكتسبت البياضا *** حتى غدتْ جلودها بِضاضا

وكان أصل اللون البياض لأنه غير محتاج إلى علة ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون . ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر . ومن العلماء وهو ( كُوقْيَيْ ) {[313]} جعل أصول ألوان البشر ثلاثة : الأبيض والأسود والأصفر ، وهو لون أهل الصين . ومنهم من زاد الأحمر وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنود أمريكا . واعلم أن من مجموع اختلاف اللغات واختلاف الألوان تمايزت الأجذام البشرية واتحدت مختلطات أنسابها . وقد قسموا أجذام البشر الآن إلى ثلاثة أجذام أصلية وهي الجذم القوقاسي الأبيض ، والجذم المغولي الأصفر ، والجذم الحبشي الأسود ، وفرعوها إلى ثمانية وهي الأبيض والأسود والحبشي والأحمر والأصفر والسَّامي والهندي والمَلاَيي ( نسبة إلى بلاد المَلاَيُو ) .

وجعل ذلك آيات في قوله { إن في ذلك لآيات للعالمين } لما علمت من تفاصيل دلائله وعلله ، أي آيات لجميع الناس ، وهو نظير قوله آنفاً { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [ الروم : 21 ] .

واللام في قوله { للعالمين } نظير ما تقدم في الآية قبلها . وجعل ذلك آيات للعالمين لأنه مقرر معلوم لديهم يمكنهم الشعور بآياته بمجرد التفات الذهن دون إمعان نظر . وقرأ الجمهور { للعالمين } بفتح اللام . وقرأه حفص بكسر اللام أي لأولي العلم .


[313]:- كوقيي عالم طبيعي ولد سنة 1769 وتوفي سنة 1832.