{ إلا بلاغاً من الله ورسالاته } ففيه الجوار والأمن والنجاة ، قاله الحسن . قال مقاتل : ذلك الذي يجيرني من عذاب الله ، يعني التبليغ . وقال قتادة : إلا بلاغاً من الله فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه . وقيل : لا أملك لكم ضراً ولا رشداً لكن أبلغ بلاغاً من الله فإنما أنا مرسل لا أملك إلا ما ملكت ، { ومن يعص الله ورسوله } ولم يؤمن ، { فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً . }
{ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ } أي : ليس لي مزية على الناس ، إلا أن الله خصني بإبلاغ رسالاته ودعوة الخلق إلى الله ، وبهذا{[1252]} تقوم الحجة على الناس . { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } وهذا المراد به المعصية الكفرية ، كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة .
وأما مجرد المعصية ، فإنه لا يوجب الخلود في النار ، كما دلت على ذلك آيات القرآن ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمة هذه الأمة .
وقوله - سبحانه - : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ . . . } استثناء من مفعول { لاَ أَمْلِكُ } ، وهما قوله قبل ذلك : { لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } وما يليهما اعتراض مؤكد لنفى الاستطاعة . أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - إنى لا أملك ما يضركم ولا أملك ما ينفعكم ، وإنما الذى أملكه هو تبليغ رسالات ربى إليكم ، بأمانة واجتهاد .
والبلاغ : مصدر بلَّغ ، وهو إيصال الكلام أو الحديث إلى الغير ، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول ، مثل : " هذا خلق الله " ، و " من " ابتدائية صفة لقوله : " بلاغا " أى : بلاغا كائنا من جهة الله - تعالى - وأمره . والرسالات : جمع رسالة ، وهى ما يرسل إلى الغير من كلام أو كتاب . والمراد بها هنا : تبليغ ما أوحاه الله - تعالى - إلى نبيه للناس .
قال الآلوسى ما ملخصه وقوله : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله . . . } استثناء من مفعول لا أملك . . وما بينهما اعتراض . . فإن كان المعنى : لا أملك أن أضركم ولا أن أنفعكم ، كان استثناء متصلا ، كأنه قيل : لا أملك شيئا إلا بلاغا ، وإن كان المعنى : لا أملك أن أقسركم على الغى والرشد ، كان منقطعا ، أو من باب : لا عيب فيهم غير أن سيوفنا . . أى : أنه من أسلوب تأكيد الشئ بما يشبه ضده ، وقوله { وَرِسَالاَتِهِ } عطف على قوله { بَلاَغاً } وقوله : { مِّنَ الله } متعلق بمحذوف وقع صفه له . أى : بلاغا كائنا من الله . .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة من يخالف أمره فقال : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } فيما أمرا به ، أو نهيا عنه .
{ فَإِنَّ لَهُ } أى : لهذا العاصى { نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى : فحكمه أن له نار جهنم ، وجمع - سبحانه - خالدين باعتبار معنى " من " ، كما أن الإِفراد فى قوله { فَإِنَّ لَهُ } باعتبار لفظها .
وقوله : " أبدا " مؤكد لمعنى الخلود . أى : خالدين فيها خلودا أبديا لا نهاية له .
قل : إني لن يجيرني من الله أحدا ولن أجد من دونه ملتحدا . إلا بلاغا من الله ورسالاته . . . . .
وهذه هي القولة الرهيبة ، التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر . . أمر الرسالة والدعوة . . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة . . إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية ، إلا أن أبلغ هذا الأمر ، وأؤدي هذه الأمانة ، فهذا هو الملجأ الوحيد ، وهذه هي الإجارة المأمونة . إن الأمر ليس أمري ، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ ، ولا مفر لي من هذا التبليغ . فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد ، ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني ، إلا أن أبلغ وأؤدي !
يا للرهبة ! ويا للروعة ! ويا للجد !
إنها ليست تطوعا يتقدم به صاحب دعوة . إنما هو التكليف . التكليف الصارم الجازم ، الذي لا مفر من أدائه . فالله من ورائه !
وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس . إنما هو الأمر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه !
وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد . . إنها تكليف وواجب . وراءه الهول ، ووراءه الجد ، ووراءه الكبير المتعال !
( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا . حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا ) .
فهو التهديد الظاهر والملفوف لمن يبلغه هذا الأمر ثم يعصي . بعد التلويح بالجد الصارم في التكليف بذلك البلاغ .
وإذا كان المشركون يركنون إلى قوة وإلى عدد ، ويقيسون قوتهم إلى قوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين القلائل معه ، فسيعلمون حين يرون ما يوعدون - إما في الدنيا وإما في الآخرة - ( من أضعف ناصرا وأقل عددا ) . . وأي الفريقين هو الضعيف المخذول القليل الهزيل !
ونعود إلى مقالة الجن فنجدهم يقولون : ( وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا )فنجد التعقيب على القصة يتناسق معها . ونجد القصة تمهد للتعقيب فيجيء في أوانه وموعده المطلوب !
اختلف الناس في تأويل قوله { إلا بلاغاً } : فقال الحسن ما معناه أنه استثناء منقطع ، والمعنى لن يجيرني من الله أحد { إلا بلاغاً } ، فإني إن بلغت رحمني بذلك ، والإجارة : للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته ، وقال بعض النحاة على هذا المعنى هو استثناء متصل . والمعنى لن أجد ملتحداً { إلا بلاغاً } ، أي شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع ، فيجبرني الله . وقال قتادة : التقدير لا أملك { إلا بلاغاً } إليكم ، فأما الإيمان أو الكفر فلا أملكه . وقال بعض المتأولين { إلا } بتقدير الانفصال ، و «إن » شرط و «لا » نافية كأنه يقول : ولن أجد ملتحداً إن لم أبلغ من الله ورسالته ، و { من } في قوله { من الله } لابتداء الغاية . وقوله تعالى : { ومن يعص الله } يريد الكفر بدليل الخلود المذكور . وقرأ طلحة وابن مصرف ، «فإن له » على معنى فجزاؤه أن له .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى، فقال: {إلا بلاغا من الله ورسالاته} فذلك الذي يجيرني من عذابه، التبليغ، لاستعجالهم بالعذاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لا أملك لكم ضر ولا رشدا.
{ومن يعص الله ورسوله}... فلا يؤمن.
{فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} يدخله نارا خالدا فيها، يعني معمرا فيها لا يموتون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لمشركي العرب:"إني لا أملك لكم ضرّا ولا رشدا إلاّ بَلاغا مِنَ اللّهِ وَرِسالاتِهِ "يقول: إلاّ أن أبلغكم من الله ما أمرني بتبليغكم إياه، وإلا رسالاته التي أرسلني بها إليكم، فأما الرشد والخذلان، فبيد الله، هو مالكه دون سائر خلقه يهدى من يشاء ويخذل من أراد.
"قل إني لن يجيرني من الله أحد": إن لم أبلغ رسالاته...
" وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فإنّ لَهُ نارَ جَهَنّمَ" يقول تعالى ذكره: ومن يعص الله فيما أمره ونهاه، ويكذّب به ورسوله، فجحد رسالاته، فإن له نار جهنم يصلاها "خالِدِينَ فِيها أبَدا": ماكثين فيها أبدا إلى غير نهاية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إلا بلاغا من الله ورسالاته} استثناء من قوله: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} {إلا بلاغا من الله} أي إني لا أملك لكم هدايتكم وإضلالكم إلا ما كلفت لأجلكم من تبليغ الرسالة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات. والمعنى: إلا أن أبلغ عن الله فأقول: قال الله كذا، ناسباً لقوله إليه، وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 22]
قل: إني لن يجيرني من الله أحدا ولن أجد من دونه ملتحدا. إلا بلاغا من الله ورسالاته...
. وهذه هي القولة الرهيبة، التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر.. أمر الرسالة والدعوة.. والرسول [صلى الله عليه وسلم] يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة.. إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية، إلا أن أبلغ هذا الأمر، وأؤدي هذه الأمانة، فهذا هو الملجأ الوحيد، وهذه هي الإجارة المأمونة. إن الأمر ليس أمري، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ، ولا مفر لي من هذا التبليغ. فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد، ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني، إلا أن أبلغ وأؤدي! يا للرهبة! ويا للروعة! ويا للجد! إنها ليست تطوعا يتقدم به صاحب دعوة. إنما هو التكليف. التكليف الصارم الجازم، الذي لا مفر من أدائه. فالله من ورائه! وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس. إنما هو الأمر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه! وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد.. إنها تكليف وواجب. وراءه الهول، ووراءه الجد، ووراءه الكبير المتعال!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويضيف في الآية الأُخرى: (إلاّ بلاغاً من اللّه ورسالاته)، وقد مرّ ما يشابه هذا التعبير مراراً في آيات القرآن الكريم، كما في الآية (92) من سورة المائدة: (إنّما على رسولنا البلاغ المبين).
وكذا في الآية (188) من سورة لأعراف: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً إلاّ ما شاء اللّه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون).
وقيل أيضاً في تفسير هذه الآية: إنّ المعنى: قل لن يجيرني من اللّه أحد إلاّ تبليغاً منه ومن رسالاته، أي إلاّ أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى.
وأمّا عن الفرق بين «البلاغ» و «الرسالات» فقد قيل: إنّ البلاغ يخص اُصول الدين، والرسالات تخصّ بيان فروع الدين.
وقيل المراد من إبلاغ الأوامر الإلهية، والرسالات بمعنى تنفيذ تلك الأوامر، ولكن الملاحظ أنّ الاثنين يرجعان إلى معنى واحد، بقرينة الآيات القرآنية المتعددة: وكقوله تعالى في الآية (62) سورة الأعراف فيقول: (أبلغكم رسالات ربّي) وغيرها من الآيات، ويحذر في نهاية الآية فيقول: (ومن يعص اللّه ورسوله فإنّ له جهنم خالدين فيها أبداً).