قوله { إِلاَّ بَلاَغاً } ، فيه وجوه :
أحدها : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن إن بلغت عن الله رحمتي ، لأن البلاغ من الله - تبارك وتعالى - لا يكونُ داخلاً تحت قوله : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } . لأنه لا يكون من دون الله - عز وجل - وبعنايته وتوفيقه .
والثاني : أنَّه متصل ، وتأويله ، أن الإجارة مستعارة للبلاغ ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى ، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني ، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين :
أحدهما : أن يكون بدلاً من «مُلتحَداً » لأن الكلام غير موجب ، وهذا اختيار الزَّجاجِ .
والثاني : أنه منصوب على الاستثناء .
الثالث : أنه مستثنى منقطع من قوله { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً } .
قال قتادة : أي : لا أملك إلا بلاغاً إليكم{[58214]} ، وقرره الزمخشري ، فقال : أي : لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله ، وقيل : { إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله } جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع .
الرابع : أنَّ الكلام ليس استثناء ، بل شرطاً ، والأصل : «إن لا » ف «إنْ » شرطية وفعلها محذوفٌ ، لدلالة مصدره ، والكلام الأول عليه ، و «لا » نافية ، والتقدير : «إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ » .
وجعلوا هذا كقول الآخر : [ الوافر ]
4915 - فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ***وإلاَّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ{[58215]}
أي : وإن لا تطلقها يعلُ ، فحذف الشرط ونفى الجواب ، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين :
أحدهما : أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً .
والثاني : أنَّه حذف الجزءان هنا ، أعني الشرط والجزاء .
4916 - قَالتْ بنَاتُ العَمِّ : يا سَلْمَى وإنْ***كَانَ فَقيراً مُعدماً ، قالتْ : وإنْ{[58216]}
أي قالت : وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته .
وقد يقال : إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه ، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه .
وقال الحسنُ : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ } . فإن فيه النجاة والأمان{[58217]} .
قوله { مِّنَ الله } . فيه وجهان :
أحدهما : أن «مِنْ » بمعنى «عَنْ » لأن «بلغ » يتعدى بها ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : «ألاَ بلَّغُوا عنِّي »{[58218]} .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «بلاغ » .
قال الزمخشري : «مِنْ » ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة «مِنْ » في قوله تعالى { بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] ، بمعنى : «بلاغاً كائناً من اللَّهِ » .
قوله { وَرِسَالاَتِهِ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة نسقاً على «بلاغاً » ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره .
والثاني : أنها مجرورة نسقاً على الجلالة ، أي : إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته ، قدره أبو حيَّان وجعله هو الظاهر{[58219]} ، ويجوز في جعله «مِنْ » بمعنى «عَنْ » ، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم .
قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } ، في التوحيد ، والعبادة { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } ، العامة : على كسر «إن » جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء .
قال الواحديُّ : «إن » مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء .
ولذلك حمل سيبويه قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ }[ المائدة : 95 ] ، { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً }[ البقرة : 126 ] { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره : فجزاؤه أنَّ له نار جهنَّم ، أو فحكمه أنَّ له نار جهنَّم .
قال ابن خالويه : «سمعت ابن مجاهد يقول : لم يقرأ به أحدٌ ، وهو لحنٌ ، لأنه بعد فاء الشرط ، قال : سمعتُ ابن الأنباري يقول : هو صواب ، ومعناه : فجزاؤه أنَّ لهُ نار جهنَّم » .
قال شهاب الدين{[58220]} : ابن مجاهد ، وإن كان إماماً في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها ، وهو عجيبٌ جداً كيف غفل عن قراءتي { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] في «الأنعام » ، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية .
قول «خالدينَ » . حالٌ من الهاء في «له » ، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى «مِنْ » فلذلك جمع ؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولاً اللفظ ، ثم جمع المعنى .
استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فُسَّاق أهل الصلاة يخلدون في النار ؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائرِ العمومات ، وأيضاً : فقوله «أبداً » ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكثُ الطويلُ .
والجوابُ{[58221]} : أنَّ السياقَ في التبليغ عن الله ، والرسالة ، ثم قال تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } وإذا كان هنا محتملاً سقط الاستدلال ، أو نقول : هذه الصورة لا بد وأن تندرج في العموم ، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم ، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة ، فلا يتعدى هذا الحكمُ إلى غيره من الذنوب ، أو نقول : إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآيةِ الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة ، ومعنى ، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذُّنُوبِ ، وإذا كان السبب في هذا التخصيصِ هذا المعنى ، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب ، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآيةُ على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك ، أو نقول : { وَمَن يَعْصِ الله } إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر ، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنَّ الاستثناءَ إخراج ما لولاه كان داخلاً تحت اللفظ ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى { وَمَن يَعْصِ الله } متناولاً لكل من أتى بكل المعاصي .
فإن قيل : يستحيلُ العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل ، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل .
قلنا : يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه .
دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [ طه : 93 ] ، { لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ } [ التحريم : 6 ] ، { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] .
والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.