الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِلَّا بَلَٰغٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦۚ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} (23)

قوله : { إِلاَّ بَلاَغاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه استثناءٌ منقطعٌ . أي : لكنْ إنْ بَلَّغْتُ عن اللَّهِ رَحِمني ؛ لأنَّ البلاغَ من الله لا يكونُ داخلاً تحت قولِه : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ، لأنه لا يكونُ مِنْ دونِ اللَّهِ ، بل يكونُ من اللَّهِ وبإعانتِه وتوفيقِه . الثاني : أنه متصلٌ . وتأويلُه : أنَّ الإِجارةَ مستعارةٌ للبلاغِ ، إذ هو سببُها ، وسببُ رحمتِه تعالى ، والمعنى : لن أجِدَ سبباً أميلُ إليه وأعتصمُ به ، إلاَّ أَنْ أُبَلِّغَ وأُطيعَ ، فيُجيرَني . وإذا كان متصلاً جاز نصبُه من وجهين ، أحدهما : وهو الأرجح أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " مُلْتحداً " ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ . والثاني : أنه منصوبٌ على الاستثناءِ ، وإلى البدليةِ ذهب أبو إسحاق . الثالث : أنه مستثنى مِنْ قولِه : { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً } قال قتادة : أي لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ بلاغاً إليكم .

وقرَّره الزمخشريُّ فقال : " أي : لا أَمْلِكُ إلاَّ بلاغاً من اللَّهِ ، و { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي } جملةٌ معترضةٌ اعترضَ بها لتأكيدِ نَفْيِ الاستطاعة " . قال الشيخ : " وفيه بُعْدٌ لطولِ الفَصْلِ بينهما " . قلت : وأين الطولُ وقد وقع الفَصْلُ بأكثرَ مِنْ هذا ؟ وعلى هذا فالاستثناءُ منقطعٌ . الرابع : أنَّ الكلامَ ليس استثناءً بل شرطاً . والأصل : إنْ لا فأدغم ف " إنْ " شرطيةٌ ، وفعلُها محذوفٌ لدلالةِ مصدرِه والكلامِ الأولِ عليه ، و " لا " نافيةٌ والتقدير : إن لا أُبَلِّغْ بلاغاً من اللَّهِ فلن يُجيرَني منه أحدٌ . وجَعَلوا هذا كقولِ الشاعر :

فطَلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ *** وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسامُ

أي : وإنْ لا تُطَلِّقْها يَعْلُ ، حَذَفَ الشرطَ وأبقى الجوابَ . وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ من وجهَيْن ، أحدهما : أنَّ حَذْفَ الشرطِ دونَ أداتِه قليلٌ جداً . والثاني : أنَّه حُذِفَ الجزآن معاً أعني الشرطَ والجزاءَ ، فيكونُ كقولِه :

قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ *** كان فقيراً مُعْدَماً قالت : وإِنْ

أي : قالَتْ : وإنْ كان فقيراً فقد رَضِيْتُه . وقد يُقال : إنَّ الجوابَ إمَّا مذكورٌ عند من يرى جوازَ تقديمِه ، وإمَّا في قوةِ المنطوق به لدلالةِ ما قبلَه عليه .

قوله : { مِّنَ اللَّهِ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ " مِنْ " بمعنى عَنْ ؛ لأنَّ بَلِّغ يتعدَّى بها ، ومنه قولُه عليه السلام : " ألا بَلِّغوا عني " والثاني : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " بلاغ " . قال الزمخشري : " مِن " ليسَتْ صلةً للتبليغ ، إنما هي بمنزلةِ " مِنْ " في قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ } [ التوبة : 1 ] بمعنى : بلاغاً كائناً من الله " .

قوله : { وَرِسَالاَتِهِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها منصوبةٌ نَسَقاً على " بلاغاً " كأنه قيل : لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ التبليغَ والرسالاتِ ، ولم يَقُلِ الزمخشريُّ غيرَه . والثاني : أنها مجرورةٌ نَسَقاً على الجلالةِ أي : إلاَّ بلاغاً/ عن اللَّهِ وعن رسالاتِه ، كذا قَدَّره الشيخُ .

وجَعَلَه هو الظاهرَ . وتجوَّز في جَعْلِه " مِنْ " بمعنى عن ، والتجوُّزُ في الحروفِ رأيٌ كوفيٌّ ، ومع ذلك فغيرُ منقاسٍ عندَهم .

قوله : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ } العامَّة على كسرِها ، جَعَلوها جملةً مستقلة بعد فاءِ الجزاءِ . وقرأ طلحةُ بفَتْحِها ، على أنَّها مع ما في حَيِّزِها في تأويلِ مصدرٍ واقعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه : فجزاؤهُ أنَّ له نارَ جهنمَ ، أو فحُكْمُه : أنَّ له نارَ جهنَم . قال ابن خالويه : " سَمِعْتُ ابنَ مجاهدٍ يقول : لم يَقْرَأْ به أحدٌ ، وهو لحنٌ ؛ لأنه بعد فاءِ الشرط " . قال : " وسمعتُ ابنَ الأنباريِّ يقول : هو صوابٌ ومعناه ، فجزاؤُه أنَّ له نارَ جهنم " . قلت : ابنُ مجاهدٍ وإنْ كان إماماً في القراءاتِ ، إلاَّ أنَّه خَفِيَ عليه وجهُها ، وهو عجيبٌ جداً . كيف غَفَلَ عن قراءتَيْ { فَأنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في الأنعام [ الآية : 54 ] ، لا جرم أنَّ ابنَ الأنباريِّ اسْتَصْوَبَ القراءةَ لِطُولِ باعِه في العربية .

قوله : { خَالِدِينَ } حالٌ من الهاء في " له " ، والعاملُ الاستقرارُ الذي تَعَلَّقَ به هذا الجارُّ ، وحَمَلَ على معنى " مَنْ " فلذلك جَمَعَ .