قوله : { إِلاَّ بَلاَغاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه استثناءٌ منقطعٌ . أي : لكنْ إنْ بَلَّغْتُ عن اللَّهِ رَحِمني ؛ لأنَّ البلاغَ من الله لا يكونُ داخلاً تحت قولِه : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ، لأنه لا يكونُ مِنْ دونِ اللَّهِ ، بل يكونُ من اللَّهِ وبإعانتِه وتوفيقِه . الثاني : أنه متصلٌ . وتأويلُه : أنَّ الإِجارةَ مستعارةٌ للبلاغِ ، إذ هو سببُها ، وسببُ رحمتِه تعالى ، والمعنى : لن أجِدَ سبباً أميلُ إليه وأعتصمُ به ، إلاَّ أَنْ أُبَلِّغَ وأُطيعَ ، فيُجيرَني . وإذا كان متصلاً جاز نصبُه من وجهين ، أحدهما : وهو الأرجح أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " مُلْتحداً " ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ . والثاني : أنه منصوبٌ على الاستثناءِ ، وإلى البدليةِ ذهب أبو إسحاق . الثالث : أنه مستثنى مِنْ قولِه : { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً } قال قتادة : أي لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ بلاغاً إليكم .
وقرَّره الزمخشريُّ فقال : " أي : لا أَمْلِكُ إلاَّ بلاغاً من اللَّهِ ، و { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي } جملةٌ معترضةٌ اعترضَ بها لتأكيدِ نَفْيِ الاستطاعة " . قال الشيخ : " وفيه بُعْدٌ لطولِ الفَصْلِ بينهما " . قلت : وأين الطولُ وقد وقع الفَصْلُ بأكثرَ مِنْ هذا ؟ وعلى هذا فالاستثناءُ منقطعٌ . الرابع : أنَّ الكلامَ ليس استثناءً بل شرطاً . والأصل : إنْ لا فأدغم ف " إنْ " شرطيةٌ ، وفعلُها محذوفٌ لدلالةِ مصدرِه والكلامِ الأولِ عليه ، و " لا " نافيةٌ والتقدير : إن لا أُبَلِّغْ بلاغاً من اللَّهِ فلن يُجيرَني منه أحدٌ . وجَعَلوا هذا كقولِ الشاعر :
فطَلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ *** وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسامُ
أي : وإنْ لا تُطَلِّقْها يَعْلُ ، حَذَفَ الشرطَ وأبقى الجوابَ . وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ من وجهَيْن ، أحدهما : أنَّ حَذْفَ الشرطِ دونَ أداتِه قليلٌ جداً . والثاني : أنَّه حُذِفَ الجزآن معاً أعني الشرطَ والجزاءَ ، فيكونُ كقولِه :
قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ *** كان فقيراً مُعْدَماً قالت : وإِنْ
أي : قالَتْ : وإنْ كان فقيراً فقد رَضِيْتُه . وقد يُقال : إنَّ الجوابَ إمَّا مذكورٌ عند من يرى جوازَ تقديمِه ، وإمَّا في قوةِ المنطوق به لدلالةِ ما قبلَه عليه .
قوله : { مِّنَ اللَّهِ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ " مِنْ " بمعنى عَنْ ؛ لأنَّ بَلِّغ يتعدَّى بها ، ومنه قولُه عليه السلام : " ألا بَلِّغوا عني " والثاني : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " بلاغ " . قال الزمخشري : " مِن " ليسَتْ صلةً للتبليغ ، إنما هي بمنزلةِ " مِنْ " في قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ } [ التوبة : 1 ] بمعنى : بلاغاً كائناً من الله " .
قوله : { وَرِسَالاَتِهِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها منصوبةٌ نَسَقاً على " بلاغاً " كأنه قيل : لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ التبليغَ والرسالاتِ ، ولم يَقُلِ الزمخشريُّ غيرَه . والثاني : أنها مجرورةٌ نَسَقاً على الجلالةِ أي : إلاَّ بلاغاً/ عن اللَّهِ وعن رسالاتِه ، كذا قَدَّره الشيخُ .
وجَعَلَه هو الظاهرَ . وتجوَّز في جَعْلِه " مِنْ " بمعنى عن ، والتجوُّزُ في الحروفِ رأيٌ كوفيٌّ ، ومع ذلك فغيرُ منقاسٍ عندَهم .
قوله : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ } العامَّة على كسرِها ، جَعَلوها جملةً مستقلة بعد فاءِ الجزاءِ . وقرأ طلحةُ بفَتْحِها ، على أنَّها مع ما في حَيِّزِها في تأويلِ مصدرٍ واقعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه : فجزاؤهُ أنَّ له نارَ جهنمَ ، أو فحُكْمُه : أنَّ له نارَ جهنَم . قال ابن خالويه : " سَمِعْتُ ابنَ مجاهدٍ يقول : لم يَقْرَأْ به أحدٌ ، وهو لحنٌ ؛ لأنه بعد فاءِ الشرط " . قال : " وسمعتُ ابنَ الأنباريِّ يقول : هو صوابٌ ومعناه ، فجزاؤُه أنَّ له نارَ جهنم " . قلت : ابنُ مجاهدٍ وإنْ كان إماماً في القراءاتِ ، إلاَّ أنَّه خَفِيَ عليه وجهُها ، وهو عجيبٌ جداً . كيف غَفَلَ عن قراءتَيْ { فَأنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في الأنعام [ الآية : 54 ] ، لا جرم أنَّ ابنَ الأنباريِّ اسْتَصْوَبَ القراءةَ لِطُولِ باعِه في العربية .
قوله : { خَالِدِينَ } حالٌ من الهاء في " له " ، والعاملُ الاستقرارُ الذي تَعَلَّقَ به هذا الجارُّ ، وحَمَلَ على معنى " مَنْ " فلذلك جَمَعَ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.