{ 9-17 } { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله ، وأن الآيات لا تنفع فيهم ، ولا تجدي عليهم شيئا ، أنذرهم وخوفهم بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل ، وكيف أهلكهم الله وأحل بهم عقابه .
فذكر قوم نوح ، أول رسول بعثه الله إلى قوم يعبدون الأصنام ، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }
ولم يزل نوح يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وطغيانا ، وقدحا في نبيهم ، ولهذا قال هنا : { فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ } لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل ، وأن ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام جهل وضلال ، لا يصدر إلا من المجانين ، وكذبوا في ذلك ، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقلا ، فإن ما جاء به هو الحق الثابت ، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة ، إلى الهدى والنور والرشد ، وما هم عليه جهل وضلال مبين ، [ وقوله : ] { وَازْدُجِرَ } أي : زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى الله تعالى ، فلم يكفهم -قبحهم الله- عدم الإيمان به ، ولا تكذيبهم إياه ، حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه ، وهكذا جميع أعداء الرسل ، هذه حالهم مع أنبيائهم .
ثم عرضت السورة بعد ذلك جانبا من مصارع الغابرين ، لعل فى هذا العرض ما يروعهم عن الكفر والجحود ، وما يحملهم على انتهاج طريق الحق والهدى ، فقال - تعالى - : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ . . . } .
قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، قد وردت بصورة أكثر تفصيلا فى سورة أخرى . كسورة هود ، والمؤمنون ، ونوح ، والأعراف .
ولكنها جاءت هنا - كغيرها من القصص - بصورة حاسمة قاصمة ، تزلزل النفوس ، وتفتح العيون على مصارع الغابرين ، لكى يعتبر الكافرون ، وينتهوا عن كفرهم .
قال الآلوسى : قوله : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ . . . } شروع فى تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للانزجار ، ونوع تفصيل لها ، وبيان لعدم تأثرهم بها ، تقريرا لفحوى قوله { فَمَا تُغْنِ النذر } والفعل " كذبت " منزل منزلة اللازم . أى : فَعل التكذيب قبل قومك قوم نوح . .
وفى هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن المصيبة إذا عمت خفت ، وشبيه بهذه الآية قوله - سبحانه - : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ . . . } وأسند - سبحانه - التكذيب إلى جميع قوم نوح - عليه السلام - . لأن الذين آمنوا به منهم عدد قليل ، كما قال - تعالى - : فى سورة هود : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } وقوله - تعالى - : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } تأكيد لتكذيبهم له - عليه السلام - ، فكأنه - سبحانه - يقول : إن قول نوح - عليه السلام - قد اصروا على تكذيبهم لعبدنا ونبينا ، وتواصوا بهذا التكذيب فيما بينهم ، حتى لكأن الكبار قد أوصوا الصغار .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى قوله : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } بعد قوله : { كُذِّبَتْ } ؟ قلت معناه : كذبوا فكذبوا عبدنا . أى : كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب ، تبعهم قرن مكذب .
أو معناه : كذبت قوم نوح الرسل ، فكذبوا عبدنا ، أى : لما كانوا مكذبين بالرسل ، جاحدين للنبوة رأسا ، كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل .
وقوله - سبحانه - : { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر } بيان لما كانوا عليه من انطماس بصيرة ، ومن سوء خلق . . . أى : أنهم لم يكتفوا بتكذيب نبيهم ومرشدهم وهاديهم إلى الخير . بل أضافوا إلى ذلك وصفه بالجنون ، والاعتداء عليه بأنواع الأذى والترهيب .
فقوله : { وازدجر } معطوف على قوله { قَالُواْ } وهو مأخوذ من الزجر بمعنى المنع والتخويف ، وصيغة الافتعال للمبالغة فى زجره وإيذائه .
وقد حكى القرآن فى آيات أخرى ألوانا من هذا الزجر والإيذاء ومن ذلك قوله - تعالى - كما حكى عنهم : { قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين }
وبعد هذا الإيقاع العنيف في مطلع السورة ؛ والمشهد المكروب الذي يشمل المكذبين في يوم القيامة . . يأخذ في عرض مشاهد التنكيل والتعذيب الذي أصاب بالفعل أجيال المكذبين قبلهم ، وعرض مصارع الأمم التي سلكت من قبل مسلكهم ، بادئا بقوم نوح :
( كذبت قبلهم قوم نوح ، فكذبوا عبدنا وقالوا : مجنون وازدجر . . فدعا ربه أني مغلوب فانتصر . ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا ، فالتقى الماء على أمر قد قدر . وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر . ولقد تركناها آية فهل من مدكر ? فكيف كان عذابي ونذر ? ولقد يسرنا القرآن للذكر ، فهل من مدكر ? ) . .
( كذبت قبلهم قوم نوح ) . . بالرسالة وبالآيات ( فكذبوا عبدنا ) . . نوحا ( وقالوا : مجنون ) . . كما قالت : قريش ظالمة عن محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهددوه بالرجم ، وآذوه بالسخرية ، وطالبوه أن يكف عنهم ونهروه بعنف : ( وازدجر ) . . بدلا من أن ينزجروا هم ويرعووا !
{ كذبت قبلهم قوم نوح } قبل قومك . { فكذبوا عبدنا } نوحا عليه السلام وهو تفصيل بعد إجمال ، وقيل معناه كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبوه بعدما كذبوا الرسل . { وقالوا مجنون } هو مجنون . { وازدجر } وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية ، وقيل إنه من جملة قيلهم أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته .
سوق هذه القصة وعيد لقريش وضرب مثل لهم ، وقوله : { وازدجر } إخبار من الله أنهم زجروا نوحاً بالسب والنجه{[10763]} والتخويف ، قاله ابن زيد وقرأ : { لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين }{[10764]} [ الشعراء : 116 ] ، وذهب مجاهد إلى أن { وازدجر } من كلام { قوم نوح } ، كأنهم قالوا { مجنون وازدجر } ، والمعنى : استطير جنوناً واستعر جنوناً ، وهذا قول فيه تعسف وتحكم .
استئناف بيانيّ ناشىء عن قوله : { ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر } [ القمر : 4 ] فإن من أشهرها تكذيب قوم نوح رسولهم ، وسبق الإِنباء به في القرآن في السور النازلة قبل هذه السورة . والخبر مستعمل في التذكير وليفرع عليه ما بعده . فالمقصود النعي عليهم عدم ازدجارهم بما جاءهم من الأنباء بتعداد بعض المهمّ من تلك الأنباء .
وفائدة ذكر الظرف { قبلهم } تقرير تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالى : { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } [ فاطر : 4 ] ألا ترى أنه ذكر في تلك الآية قوله : { من قبلك } نظير ما هنا مع ما في ذلك من التعريض بأن هؤلاء معرِضون .
واعلم أنه يقال : كذَّب ، إذا قال قولاً يدل على التكذيب ، ويقال كذّب أيضاً ، إذا اعتقد أن غيره كاذب قال تعالى : { فإنهم لا يكذبونك } [ الأنعام : 33 ] في قراءة الجمهور بتشديد الذال ، والمعنيان محتملان هنا ، فإن كان فعل { كذبت } هنا مستعملاً في معنى القول بالتكذيب ، فإن قوم نوح شافهوا نوحاً بأنه كاذب ، وإن كان مستعملاً في اعتقادهم كذبه ، فقد دلّ على اعتقادهم إعراضهم عن إنذاره وإهمالهم الانضواء إليه عندما أنذرهم بالطوفان .
وعُرِّف { قوم نوح } بالإِضافة إلى اسمه إذ لم تكن للأمة في زمن نوح اسم يعرفون به .
وأسند التكذيب إلى جميع القوم لأن الذين صدقوه عدد قليل فإنه ما آمن به إلا قليل ، كما تقدم في سورة هود .
والفاء في قوله : { فكذبوا عبدنا } لتفريع الإِخبار بتفصيل تكذيبهم إياه بأنهم قالوا : { مجنون وازدجر } ، على الإِخبار بأنهم كذّبُوه على الإِجمال ، وإنما جيء بهذا الأسلوب لأنه لما كان المقصود من الخبر الأول تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فرّع عليه الإخبار بحصول المشابهة بين تكذيب قوممِ نوح رسولهم وتكذيب المشركين محمداً صلى الله عليه وسلم في أنه تكذيب لمن أرسله الله واصطفاه بالعبودية الخاصة ، وفي أنه تكذيب مشوب ببهتان إذ قال كلا الفريقين لرسوله : مَجنون ، ومشوب ببذاءة إذ آذى كلا الفريقين رسولهم وازدجروه . فمحل التفريع هو وصف نوح بعبودية الله تكريماً له ، والإِخبار عن قومه بأنهم افتروا عليه وصفَه بالجنون ، واعتدوا عليه بالأذى والازدجارِ . فأصل تركيب الكلام : كذبت قبلهم قوم نوح فقالوا : مجنون وازدجر . ولما أريد الإِيماء إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء جعل ما بعد التسلية مفرعاً بفاء التفريع ليظهر قصد استقلال ما قبله ولولا ذلك لكان الكلام غنياً عن الفاء إذ كان يقول : كذبت قوم نوح عبدنا .
وأعيد فعل { كذَّبوا } لإِفادة توكيد التكذيب ، أي هو تكذيب قويّ كقوله تعالى : { وإذا بطشتم بطشتم جَبارين } [ الشعراء : 130 ] وقوله : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] ، وقول الأحوص :
فإذا تزول تزول عن متخمط *** تُخشى بوادِره على الأقران
وقد نبه على ذلك ابن جنيّ في إعراب هذا البيت من « ديوان الحماسة » ، وذَكَر أن أبا عليّ الفارسي نحا غير هذا الوجه ولم يبيّنه .
وحاصل نظم الكلام يرجع إلى معنى : أنه حصل فعل فكان حصوله على صفة خاصة أو طريقة خاصة .
ويجوز أن يكون فعل { كذبت } مستعملاً في معنى : إنهم اعتقدوا كذبه ، فتفريع { فكذّبوا عبدنا } عليه تفريع تصريحهم بتكذيبه على اعتقادهم كذبه . فيكون فعل { كذبوا } مستعملاً في معنى غير الذي استعمل فيه فعل { كذبت } ، والتفريع ظاهر على هذا الوجه .
وهذا الوجه يتأتّى في قوله تعالى : { وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي } في سورة سبأ ( 45 ) .
ويجوز أن يكون قوله : { كذبت قبلهم قوم نوح } إخباراً عن تكذيبهم بتفرد الله بالإِلهية حين تلقوه من الأنبياء الذين كانوا قبل نوح ولم يكن قبله رسول وعلى هذا الوجه يكون التفريع ظاهراً .
و { ازدجر } معطوف على { قالوا } وهو افتعل من الزجر . وصيغة الافتعال هنا للمبالغة مثلها : افتقر واضطر .
ونكتة بناء الفعل للمجهول هنا التوصل إلى حذف ما يسند إليه فعل الازدجار المبني للفاعل وهو ضمير { قوم نوح } ، فعدل على أن يقال : وازدجروه ، إلى قوله : { وازدجر } مُحاشاة للدّال على ذات نوح وهو ضمير من أن يقع مفعولاً لضميرهم . x ومرادهم أنهم ازدجروه ، أي نهوه عن ادعاء الرسالة بغلظة قال تعالى : { قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين } [ الأعراف : 66 ] وقال : { قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } [ الشعراء : 116 ] وقال : { وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } [ هود : 38 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كذبت قبلهم} قبل أهل مكة {قوم نوح فكذبوا عبدنا} نوحا {وقالوا} لنوح {مجنون وازدجر} يعني استطار القلب منه، وأوعدوه بالقتل وضربوه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا وعيد من الله تعالى ذكره، وتهديد للمشركين من أهل مكة وسائر من أرْسَلَ إليه رسولَه محمدا صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه، وتقدم منه إليهم إن هم لم ينيبوا من تكذيبهم إياه، أنه محلّ بهم ما أحل بالأمم الذين قصّ قصصهم في هذه السورة من الهلاك والعذاب، ومنجّ نبيه محمدا والمؤمنين به، كما نجّى من قبله الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلّها بأممهم، فقال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كذّبت يا محمد قبل هؤلاء الذين كذّبوك من قومك، الذين إذا رأوْا آية أعرضوا وقالوا سحر مستمرّ، قوم نوح، فكذبوا عبدنا نوحا إذ أرسلناه إليهم، كما كذّبتك قريش إذ أتيتهم بالحقّ من عندنا وقالوا: هو مجنون وازدجر، وهو افْتُعِل من زجرت، وكذا تفعل العرب بالحرف إذا كان أوّله زايا صيروا تاء الافتعال منه دالاً من ذلك قولهم: ازدجر من زجرت، وازدلف من زلفت، وازديد من زدت.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ الذي زَجَروه؛
فقال بعضهم: كان زجرهم إياه أن قالوا: استُطِير جنونا...
وقال آخرون: بل كان زجرهم إياه، وعيدهم له بالشتم والرجم بالقول القبيح... قال ابن زيد، في قوله:"وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ "قال: اتهموه وزجروه وأوعدوه لئن لم يفعل ليكوننّ من المرجومين، وقرأ: "لَئِنْ لَم تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ المَرْجُومِينَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كذّبت قبل قومك قوم نوح نوحا عليه السلام وآذوه، فصبر على التكذيب وأنواع الأذى، ولم يدع عليهم بالهلاك ما لم يرد الإذن بالدعاء عليهم بالهلاك من الله تعالى. فاصبر أنت على تكذيب القوم وأنواع الأذى، وهو كقوله تعالى: {فاصبر كما صبر أولو ا لعزم فإن قيل: إن نوحا عليه السلام قد دعا على قومه بالهلاك، قيل: إنما دعا على قومه بالهلاك بعد ما أيس من إيمانهم حين قيل: إنه {لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36] أما رسول الله فلن يُؤيِسه من إيمان قومه جملة، إنما أيأسه من بعض بطريق التّعيين، وهم قوم، علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، لا من الكل. فلذلك لم [يأذن لهم] بالدعاء عليهم...
.فإن قيل: ما الحكمة في تكرار هذه الأشياء في القرآن، ولم يكرّر ما فيه من الأحكام؟ قيل: إن هذه الأنباء والقِصص إنما جاءت لمُحاجّة أهل مكة وأمثالهم من الكفرة في إثبات الرسالة والتوحيد والبعث، إذ هم المُنكِرون لهذه الأشياء، وهم كانوا أهل عناد ومكابرة، وفيهم أيضا مسترشدون، ومن حق المحاجّة مع من ذكرنا وأمثالهم أن تعاد الحُجّة مرة بعد مرة، لعلهم يقبلونها في وقت، وتنجع في قلوبهم، ومن حق الموعظة للمسترشدين أيضا أن تُكرّر ليتّعظوا. ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، وقد ذكرنا فوائد تكرارها واقتصار الأحكام في ما تقدم...
{فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدُجر} يحتمل {فكذّبوا} في ما ادّعى لنفسه الرسالة، أو كذّبوه في ما دعاهم إليه من التوحيد وتوجيه الشكر إلى الواحد القهّار. وقوله تعالى: {وازدُجر} أي نوح عليه السلام حين قالوا لقومهم: لا تتّبعوه، وزجروهم عنه بقولهم: إنه مجنون، فهذا منهم زجر لأتباعهم عن اتّباعه، فصار لذلك نوح عليه السلام مُزدَجرا عنهم. وقال بعضهم: زجروا نوحا عليه السلام أي منعوه من إظهار ما آتاهم من الآيات على رسالته، والله أعلم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واعلم أنه يقال: كذَّب، إذا قال قولاً يدل على التكذيب، ويقال كذّب أيضاً، إذا اعتقد أن غيره كاذب قال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك} [الأنعام: 33] في قراءة الجمهور بتشديد الذال، والمعنيان محتملان هنا، فإن كان فعل {كذبت} هنا مستعملاً في معنى القول بالتكذيب، فإن قوم نوح شافهوا نوحاً بأنه كاذب، وإن كان مستعملاً في اعتقادهم كذبه، فقد دلّ على اعتقادهم إعراضهم عن إنذاره وإهمالهم الانضواء إليه عندما أنذرهم بالطوفان. وعُرِّف {قوم نوح} بالإِضافة إلى اسمه إذ لم تكن للأمة في زمن نوح اسم يعرفون به. وأسند التكذيب إلى جميع القوم لأن الذين صدقوه عدد قليل فإنه ما آمن به إلا قليل، كما تقدم في سورة هود. ويجوز أن يكون قوله: {كذبت قبلهم قوم نوح} إخباراً عن تكذيبهم بتفرد الله بالإِلهية حين تلقوه من الأنبياء الذين كانوا قبل نوح ولم يكن قبله رسول وعلى هذا الوجه يكون التفريع ظاهراً.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَقَالُواْ مَجْنُونٌ} فاتهموه في عقله، لأنه دعاهم إلى ما لم يألفوه، أو أنكر عليهم ما ألفوه من عبادة الأصنام، ليبطلوا تأثيره في النفوس، وهذا ما يفعله المترفون في كل زمان ومكانٍ عندما تواجههم الدعوات التغييرية والإصلاحية، لاختصار الرد بذلك، باعتبار أن المعقول لديهم هو ما يلتزمونه ويتبنونه.