قوله : «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ » مفعوله محذوف أي كذبت الرُّسُلَ{[53948]} ؛ لأنهم لما كذبوا نوحاً فقد كذبوا جميع الرسل . ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ إذ لو كانت منه لكان التقدير : كذبت قبلهم قومُ نوح عَبْدَنا فكذبوه ولو لفظ بهذا لكان تأكيداً ؛ إذ لم يفد غير الأول ، وشرط التنازع أن لا يكون الثاني تأكيداً ، ولذلك منعوا أن يكون قوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَتَاكِ أَتَاكِ اللاَّحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ{[53949]}
وفي كلام الزمخشري ما يجوزه ، فإنه أخرجه عن التأكيد ، فقال : فإن قلت : ما معنى قوله «فَكَذَّبُوا » بعد قوله : «كَذَّبَتْ » ؟
قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا أي كذبوا تكذيباً عقب{[53950]} تكذيب كلما مضى منهم قَرْنٌ مُكَذِّبٌ تبعه قرن مُكَذِّبٌ{[53951]} . هذا معنى حسن يسوغ معه التنازع{[53952]} .
لما فرغ من حكاية كلام الكافر ، ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال : كذبت قبلهم قوم نوح أي قبل أهل مكة . واعلم أن إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائزٌ وحسنٌ بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيحٌ عند أكثرهم ، فلا يجوزون : كَذَّبُوا قَوْمُ نوحٍ ويجوزون : كَذَّبَتْ فما الفرق ؟
قال ابن الخطيب : لأن التأنيث قبل الجمع ، لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ، ولم تحصل الأنُوثَةُ للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع ، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } بعد قوله : «كَذَّبَتْ » ؟
قال ابن الخطيب : الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن قوله «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ » أي بآياته فكذب هؤلاء عبدنا بآية الانشقاق فَكذَّبُوكَ .
الثاني : كذبت قوم نوح المرسلين وقالوا لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره ؛ وذلك لأن قومَ نوح كانوا مشركين يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كُلَّ رسول ، وينكر الرسالة ، لأنَّه يقول : لا تعلق لله بالعالم السُّفْلِيِّ ، وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيبَ فكذَّبُوك .
الثالث : أن قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } للتصديق والرد عليهم تقديره : كذبت قوم نوح فكان تكذيبهم تكذيب عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق .
فإن قيل : لو قال : فكذبوا رسولنا كان أدلَّ على قُبْحِ فعلهم فما الفائدة في اختيار لفظ العبد ؟
فالجواب : أن قوله : عَبْدَنَا أدلّ في صدقه وقبح تكذيبهم من قوله : «رسولنا » ؛ لأن العبد أخوف وأقلّ تحريفاً لكلام السيِّد من الرسول فيكون كقوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين }{[53953]} [ الحاقة : 44 - 45 ] .
قوله : «وَقَالُوا مَجْنُونَ » مجنون خبر ابتداء مضمر أي هُو مجنون ، وهذا إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا عنه ، وقالوا مصاب الجن أو زيادة بيان لقُبْح صنيعهم حيث لم يَقْنَعُوا{[53954]} بتكذيبهم بل قالوا : مجنون أي تَقَوَّل ما لا يقبله عاقلٌ والكاذب العاقل يقول ما يظن به صدقهُ ، فيكون قولهم : مَجْنُونٌ مبالغة في التَّكْذِيبِ{[53955]} .
قوله : «وَازْدُجِرَ » الدال في «ازدجر » بدل من تاء لِمَا تَقَدَّمَ .
وهل هو من مقولهم أي قالوا إنه ازدجر أي ازْدَجَرَتْهُ الجِنُّ وذهبت بُلبِّه - قاله مجاهد - أو هو من كلام الله تعالى أخبر عنه بأنه انتُهِزَ وزجر بالسبِّ وأنواع الأذى ؟ وَقَالوا «لِئَنْ لَمْ تَنْتَهِ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ » . قال ابن الخطيب : وهذا أصح ؛ لأن المقصود تقوية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر من تقدمه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.