اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٞ وَٱزۡدُجِرَ} (9)

قوله : «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ » مفعوله محذوف أي كذبت الرُّسُلَ{[53948]} ؛ لأنهم لما كذبوا نوحاً فقد كذبوا جميع الرسل . ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ إذ لو كانت منه لكان التقدير : كذبت قبلهم قومُ نوح عَبْدَنا فكذبوه ولو لفظ بهذا لكان تأكيداً ؛ إذ لم يفد غير الأول ، وشرط التنازع أن لا يكون الثاني تأكيداً ، ولذلك منعوا أن يكون قوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَتَاكِ أَتَاكِ اللاَّحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ{[53949]}

من ذلك .

وفي كلام الزمخشري ما يجوزه ، فإنه أخرجه عن التأكيد ، فقال : فإن قلت : ما معنى قوله «فَكَذَّبُوا » بعد قوله : «كَذَّبَتْ » ؟

قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا أي كذبوا تكذيباً عقب{[53950]} تكذيب كلما مضى منهم قَرْنٌ مُكَذِّبٌ تبعه قرن مُكَذِّبٌ{[53951]} . هذا معنى حسن يسوغ معه التنازع{[53952]} .

فصل

لما فرغ من حكاية كلام الكافر ، ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال : كذبت قبلهم قوم نوح أي قبل أهل مكة . واعلم أن إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائزٌ وحسنٌ بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيحٌ عند أكثرهم ، فلا يجوزون : كَذَّبُوا قَوْمُ نوحٍ ويجوزون : كَذَّبَتْ فما الفرق ؟

قال ابن الخطيب : لأن التأنيث قبل الجمع ، لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ، ولم تحصل الأنُوثَةُ للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع ، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم .

فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } بعد قوله : «كَذَّبَتْ » ؟

قال ابن الخطيب : الجواب عنه من وجوه :

الأول : أن قوله «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ » أي بآياته فكذب هؤلاء عبدنا بآية الانشقاق فَكذَّبُوكَ .

الثاني : كذبت قوم نوح المرسلين وقالوا لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره ؛ وذلك لأن قومَ نوح كانوا مشركين يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كُلَّ رسول ، وينكر الرسالة ، لأنَّه يقول : لا تعلق لله بالعالم السُّفْلِيِّ ، وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيبَ فكذَّبُوك .

الثالث : أن قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } للتصديق والرد عليهم تقديره : كذبت قوم نوح فكان تكذيبهم تكذيب عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق .

فإن قيل : لو قال : فكذبوا رسولنا كان أدلَّ على قُبْحِ فعلهم فما الفائدة في اختيار لفظ العبد ؟

فالجواب : أن قوله : عَبْدَنَا أدلّ في صدقه وقبح تكذيبهم من قوله : «رسولنا » ؛ لأن العبد أخوف وأقلّ تحريفاً لكلام السيِّد من الرسول فيكون كقوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين }{[53953]} [ الحاقة : 44 - 45 ] .

قوله : «وَقَالُوا مَجْنُونَ » مجنون خبر ابتداء مضمر أي هُو مجنون ، وهذا إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا عنه ، وقالوا مصاب الجن أو زيادة بيان لقُبْح صنيعهم حيث لم يَقْنَعُوا{[53954]} بتكذيبهم بل قالوا : مجنون أي تَقَوَّل ما لا يقبله عاقلٌ والكاذب العاقل يقول ما يظن به صدقهُ ، فيكون قولهم : مَجْنُونٌ مبالغة في التَّكْذِيبِ{[53955]} .

قوله : «وَازْدُجِرَ » الدال في «ازدجر » بدل من تاء لِمَا تَقَدَّمَ .

وهل هو من مقولهم أي قالوا إنه ازدجر أي ازْدَجَرَتْهُ الجِنُّ وذهبت بُلبِّه - قاله مجاهد - أو هو من كلام الله تعالى أخبر عنه بأنه انتُهِزَ وزجر بالسبِّ وأنواع الأذى ؟ وَقَالوا «لِئَنْ لَمْ تَنْتَهِ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ » . قال ابن الخطيب : وهذا أصح ؛ لأن المقصود تقوية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر من تقدمه .


[53948]:قاله أبو حيان في البحر 8/176.
[53949]:عجز بيت من الطويل مجهول قائله، وصدره: فأين إلى أين النجاءُ ببلغةٍ *** ..................... والفاء للعطف، و"أين" للاستفهام متعلق بمحذوف، أي فأين تذهب والنّجاء بالمد الإسراع وهو مبتدأ وخبره: إلى أين مقدما. والشاهد في: أتاك أتاك اللاحقون فإنهما عاملان في اللفظ ولكن الثاني منهما لا يقتضي إلا التأكيد، إذ لو كان كاملا لقيل: أتوك أتاك، أو أتاك أتوك. وهذا البيت يشبه في عدم التنازع قوله: ...................... *** كفاني ولم أطلب قليل من المال. فإن الثاني لم يطلب "قليل"؛ إذ المراد كفاني قليل من المال، وانظر حاشية الصبان على الأشموني 2/98 والتصريح 1/318 والهمع 2/111 و125 والدرر 2/145 و198 وشرح الشواهد على الأشموني 2/98 وأمالي الشجري 1/243.
[53950]:في الكشاف: على عقب.
[53951]:قال: أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا، لأنه من جملة الرسل.
[53952]:حيث قال: كذبوا فكذبوا عبدنا.
[53953]:وانظر تفسير الإمام 15/35 و36.
[53954]:كذا في الرازي وفي (أ) وفي (ب) ينتفعوا.
[53955]:الرازي المرجع السابق.