قوله تعالى : { وعلى الله قصد السبيل } يعني : بيان طريق الهدى من الضلالة . وقيل : بيان الحق بالآيات والبراهين والقصد الصراط المستقيم . { ومنها جائر } يعني : ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج ، فالقصد من السبيل : دين الإسلام ، والجائر منها : اليهودية ، والنصرانية ، وسائر ملل الكفر . قال جابر بن عبد الله { قصد السبيل } : بيان الشرائع والفرائض . وقال عبد الله بن المبارك ، وسهل بن عبد الله : قصد السبيل السنة ، { ومنها جائر } الأهواء والبدع ، دليله قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } [ الأنعام-153 ] . { ولو شاء لهداكم أجمعين } ، نظيره قوله تعالى : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } [ السجدة-13 ] .
ولما ذكر تعالى الطريق الحسي ، وأن الله قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل وغيرها ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } أي : الصراط المستقيم ، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها موصل إلى الله .
وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله وهو : كل ما خالف الصراط المستقيم فهو قاطع عن الله ، موصل إلى دار الشقاء ، فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم ، وضل الغاوون عنه ، وسلكوا الطرق الجائرة { وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ولكنه هدى بعضا كرما وفضلا ، ولم يهد آخرين ، حكمة منه وعدلا .
أتبع ذلك ببيان أنه - عز وجل - كفيل بالإِرشاد إلى الطريق المستقيم لمن يتجه إليه فقال - تعالى - : { وعلى الله قَصْدُ السبيل ، وَمِنْهَا جَآئِرٌ ، وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
والقصد : الاستقامة . والسبيل : الطريق والقصد منه : هو المستقيم الذى لا اعوجاج فيه . يقال : سبيل قصد وقاصد ، أى : مستقيم ، قال الشاعر :
ومن الطريقة جائر وهدى . . . قصد السبيل ، ومنه ذو دخل
قال الجمل ما ملخصه : " { وعلى الله } أى : تفضلا { قصد السبيل } على تقدير مضاف ، أى : وعلى الله بيان قصد السبيل . وهو بيان طريق الهدى من الضلالة ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والقصد مصدر يوصف به . يقال : سبيل قصد وقاصد أى : مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذى يؤمه السالك لا يعدل عنه .
وفي معرض النقل والحمل والركوب والسير لبلوغ غايات محسوسة في عالم الأرض ، يدخل السياق غايات معنوية وسيرا معنويا وطرقا معنوية . فثمة الطريق إلى الله . وهو طريق قاصد مستقيم لا يلتوي ولا يتجاوز الغاية . وثمة طرق أخرى لا توصل ولا تهدي . فاما الطريق إلى الله فقد كتب على نفسه كشفها وبيانها : بآياته في الكون وبرسله إلى الناس :
( وعلى الله قصد السبيل . ومنها جائر . ولو شاء لهداكم أجمعين ) . .
والسبيل القاصد هو الطريق المستقيم الذي لا يلتوي كأنه يقصد قصدا إلى غايته فلا يحيد عنها . والسبيل الجائر هو السبيل المنحرف المجاوز للغاية لا يوصل إليها ، أو لا يقف عندها !
( ولو شاء لهداكم أجمعين ) . . ولكنه شاء أن يخلق الإنسان مستعدا للهدى والضلال ، وأن يدع لإرادته اختيار طريق الهدى أو طريق الضلال . فكان منهم من يسلك السبيل القاصد ، ومنهم من يسلك السبيل الجائر . وكلاهما لا يخرج على مشيئة الله ، التي قضت بأن تدع للإنسان حرية الاختيار .
{ وعلى الله قصد السبيل } بيان مستقبل الطريق الموصل إلى الحق ، أو إقامة السبيل وتعديلها رحمة وفضلا ، أو عليه قصد السبيل يصل إليه من يسلكه لا محالة يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه ، والمراد من { السبيل } الجنس ولذلك أضاف إليه ال { قصد } وقال : { ومنها جائز } حائد عن القصد أو عن الله ، وتغيير الأسلوب لأنه ليس بحق على الله تعالى أن يبين طرق الضلالة ، أو لأن المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض . وقرئ و " منكم جائر " أي عن القصد . { ولو شاء } الله { لهداكم أجمعين } أي ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء .
وقوله { وعلى الله قصد السبيل } الآية ، هذا أيضاً من أجل نعم الله تعالى ، أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه ، وذلك بنصب الأدلة وبعث الرسل ، وإلى هذا ذهب المتأولون ، ويحتمل أن يكون المعنى : إن من سلك السبيل القاصد فعلى الله رحمته ونعيمه وطريقه ، وإلى ذلك مصيره ، فيكون هذا مثل قوله تعالى :{ هذا صراط علي مستقيم } [ الحجر : 41 ] وضد قول النبي صلى الله عليه وسلم «والشر ليس إليك » أي لا يفضي إلى رحمتك ، وطريق قاصد معناه بين مستقيم ، ومنه قول الآخر :
فصد عن نهج الطريق القاصد{[7257]} . . . والألف واللام في { السبيل } للعهد ، وهي سبيل الشرع ، وليست للجنس ، ولو كانت للجنس لم يكن فيها جائر ، وقوله { ومنها جائر } يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعبدة الأصنام ، والضمير في { منها } يعود على { السبيل } التي تضمنها معنى الآية ، كأنه قال : ومن السبيل جائر ، فأعاد عليها وإن كان لم يجر له ذكر لتضمن لفظة { السبيل } بالمعنى لها ، ويحتمل أن يعود الضمير في { منها } على سبيل الشرع المذكورة وتكون «من » للتبعيض ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال :«ومن بنيات الطرف في هذه السبيل ومن شعبها جائر » ، وقوله { ولو شاء لهداكم أجمعين } معناه لخلق الهداية في قلوب جميعكم ولم يضل أحد ، وقال الزجاج معناه لو شاء لعرض عليكم آية تضطركم إلى الإيمان والاهتداء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد لم يحصله الزجاج ، ووقع فيه رحمه الله عن غير قصد{[7258]} ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «ومنكم جائر » ، وقرأ علي بن أبي طالب «فعنكم جائر » ، و { السبيل } تذكر وتؤنث .
جملة معترضة . . اقتضَتْ اعتراضَها مناسبة الامتنان بنعمة تيسير الأسفار بالرواحل والخيل والبغال والحمير .
فلما ذكرت نعمة تيسير السبيل الموصلة إلى المقاصد الجثمانية ارتُقِي إلى التذكير بسبيل الوصول إلى المقاصد الرُّوحانية وهو سبيل الهدى ، فكان تعهّد الله بهذه السبيل نعمة أعظمَ من تيسير المسالك الجثمانية لأن سبيل الهدى تحصل به السعادة الأبدية . وهذه السبيل هي موهبةُ العقل الإنساني الفارق بين الحقّ والباطل ، وإرسال الرسل لدعوة الناس إلى الحقّ ، وتذكيرهم بما يغفلون عنه ، وإرشادهم إلى ما لا تصل إليه عقولهم أو تصل إليه بمشقّة على خطر من التورّط في بنيّات الطريق .
فالسبيل : مجاز لما يأتيه الناس من الأعمال من حيث هي موصلة إلى دار الثواب أو دار العقاب ، كما في قوله : { قل هذه سبيلي } [ سورة يوسف : 108 ] . ويزيد هذه المناسبة بياناً أنه لما شرحت دلائل التوحيد ناسب التنبيه على أن ذلك طريق للهدى ، وإزالة للعذر ، وأن من بين الطرق التي يسلكها الناس طريق ضلال وجور .
وقد استعير لتعهّد الله بتبيين سبيل الهدى حرف { على } المستعار كثيراً في القرآن وكلام العرب لمعنى التعهّد ، كقوله تعالى : { إن علينا للهدى } . شبه التزام هذا البيان والتعهّد به بالحقّ الواجب على المحقوق به .
والقصد : استقامة الطريق . وقع هنا وصفاً للسبيل من قبيل الوصف بالمصدر ، لأنه يقال : طريق قاصد ، أي مستقيم ، وطريق قصد ، وذلك أقوى في الوصف بالاستقامة كشأن الوصف بالمصادر ، وإضافة { قصد } إلى { السبيل } من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهي صفة مخصّصة لأن التعريف في { السبيل } للجنس . ويتعين تقدير مضاف لأن الذي تعهّد الله به هو بيان السبيل لا ذات السبيل .
وضمير { ومنها } عائد إلى { السبيل } على اعتبار جواز تأنيثه .
و { جائر } وصف ل { السبيل } باعتبار استعماله مذكراً . أي من جنس السبيل الذي منه أيضاً قصد سبيل جائر غير قَصْد .
والجائر : هو الحائد عن الاستقامة . وكنّي به عن طريق غير موصل إلى المقصود ، أي إلى الخير ، وهو المفضي إلى ضُرّ ، فهو جائر بسالكه . ووصفه بالجائر على طريقة المجاز العقلي . ولم يضف السبيل الجائر إلى الله لأن سبيل الضلال اخترعها أهل الضلالة اختراعاً لا يشهد له العقل الذي فطر الله الناس عليه ، وقد نهى الله الناس عن سلوكها .