إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَعَلَى ٱللَّهِ قَصۡدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنۡهَا جَآئِرٞۚ وَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ} (9)

{ وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } القصدُ مصدر بمعنى الفاعل ، يقال : سبيلٌ قصْدٌ وقاصدٌ ، أي مستقيم على طريقة الاستعارة أو على نهج إسنادِ حال سالكِه إليه ، كأنه يقصِد الوجهَ الذي يؤمه السالكُ لا يعدِل عنه ، أي حقٌّ عليه سبحانه وتعالى بموجب رحمته ووعدِه المحتوم بيانُ الطريق المستقيمِ الموصلِ لمن يسلكه إلى الحق الذي هو التوحيدُ بنصب الأدلةِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ لدعوة الناس إليه ، أو مصدرٌ بمعنى الإقامة والتعديل كذا قاله أبو البقاء ، أي عليه عز وجل تقويمُها وتعديلها أي جعلُها بحيث يصل سالكُها إلى الحق ، لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفةً عنه بل إبداعُها ابتداءً كذلك على نهج قوله : سبحان من صغّر البعوضَ وكبّر الفيل ، وحقيقتُه راجعةٌ إلى ما ذكر من نصب الأدلةِ ، وقد فعَل ذلك حيث أبدع هذه البدائعَ التي كلُّ واحد منها لاحبٌّ{[482]} يهتدى بمناره وعلَمٌ يُستضاء بناره ، وأَرسل رسلاً مبشرين ومنذرين وأَنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحيُ الناطقُ بحقيقة الحقِّ الفاحصِ عن كل ما جلّ من الأسرار ودقّ ، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلةِ المفضية إلى معالم الهدى ، المنْجية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى ، ألا يُرى كيف بيّن أولاً تنزُّهَ جنابِ الكبرياء وتعالِيَه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبةُ توهمِ الإشراك ، ثم أوضح سرَّ إلقاءِ الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكيفيةَ أمرِهم بإنذار الناس ودعوتِهم إلى التوحيد ونهيِهم عن الإشراك ، ثم كرّ على بيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعالِ مرشداً إلى طريقة الاستدلالِ فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجُسماني ومركزِه بقوله تعالى : { خُلِقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ثم فصّل أفعالَه المتعلقةَ بما بينهما فبدأ بفعله المتعلّق بأنفس المخاطَبين ، ثم ذكر ما يتعلق بما لا بد لهم منه في معايشهم ، ثم بين قدرتَه على خلق ما لا يحيط به علمُ البشر بقوله : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وكلُّ ذلك كما ترى بيانٌ لسبيل التوحيد غِبَّ بيانٍ وتعديلٌ له أيُّما تعديلٍ ، فالمرادُ بالسبيل على الأول الجنسُ بدليل إضافة القصدِ إليه وقوله تعالى : { وَمِنْهَا } في محل الرفع على الابتداء ، إما باعتبار مضمونِه وإما بتقدير الموصوف كما في قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } وقد مر في قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الأخر } الخ ، أي بعضُ السبيل أو بعضٌ من السبيل فإنها تؤنث وتذكر { جَائِرٌ } أي مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه لا يوصِل سالكَه إليه ، وهو طرقُ الضلال التي لا يكاد يحصى عددُها المندرجُ كلُّها تحت الجائر ، وعلى الثاني نفسُ السبيل المستقيم والضميرُ في منها راجع إليها بتقدير المضاف أي ومن جنسها لما عرفتَ من أن تعديلَ السبيل وتقويمَه إبداعُه ابتداءً على وجه الاستقامةِ والعدالةِ لا تقويمُه بعد انحرافِه . وأياً ما كان فليس في النظم الكريم تغييرُ الأسلوب رعايةً لأمر مطلوب كما قيل ، فإن ذلك إنما يكون فيما اقتضى للظاهرُ سبكاً معيناً ولكن يُعدل عن ذلك لنُكتة أهمَّ منه كما في قوله سبحانه : { الذي يطعمني وَيَسقينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } فإن مقتضى الظاهرِ أن يقال : والذي يُسقِمني ويشفينِ ، ولكن غُيِّر إلى ما عليه النظم الكريم تفادياً عن إسناد ما تكرهه النفسُ إليه سبحانه ، وليس المرادُ ببيان قصدِ السبيل مجردَ إعلامِ أنه مستقيمٌ حتى يصِحّ إسنادُ أنه جائرٌ إليه تعالى فيُحتاجَ إلى الاعتذار عن عدم ذلك ، على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوبِ نكتةٌ ، وقد بُين ذلك في مواضعَ غير معدودةٍ ، بل المرادُ ما مر من نصب الأدلةِ لهداية الناسِ إليه ولا إمكانَ لإسناد مثلِه إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقالَ : وجائرُها حتى يصرفَ ذلك الإسنادُ منه تعالى إلى غيره لنكتة تستدعيه ، ولا يتوهمه متوهمٌ حتى يقتضيَ الحالُ دفعَ ذلك بأن يقال : لا جائرُها ، ثم يُغير سبكُ النظم عن ذلك لداعية أقوى منه بل الجملةُ الظرفيةُ اعتراضيةٌ جيء بها لبيان الحاجةِ إلى البيان والتعديل وإظهارِ جلالة قدرِ النعمة في ذلك ، والمعنى : على الله تعالى بيانُ الطريق المستقيم الموصلِ إلى الحق وتعديلُه بما ذكر من نصب الأدلةِ ليسلُكَه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصِد ، وهذا هو الهدايةُ المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهدايةُ المستلزمةُ للاهتداء البتةَ ، فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته ، بل هو مُخلٌّ بحكمته حيث يستدعي تسويةَ المحسِن والمسيء والمطيعِ والعاصي بحسب الاستعدادِ وإليه أشير بقوله تعالى : { وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي لو شاء أن يهديَكم إلى ما ذكر من التوحيد هدايةً موصلةً إليه البتةَ مستلزِمةً لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك ، ولكن لم يشأه لأن مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعيةِ إليها ، ولا حكمةَ في تلك المشيئةِ لِما أن الذي عليه يدور فلَكُ التكليفِ وإليه ينسحب الثوابُ والعقابُ إنما هو الاختيارُ الجُزئي الذي عليه يترتب الأعمالُ التي بها نيط الجزاءُ . هذا هو الذي يقتضيه المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظام ، وقد فُسّر كونُ قصدِ السبيل عليه تعالى بانتهائه إليه على نهج الاستقامةِ ، وإيثارُ حرفِ الاستعلاءِ على أداة الانتهاءِ لتأكيد الاستقامةِ على وجه تمثيليَ من غير أن يكون هناك استعلاءٌ لشيء عليه سبحانه وتعالى عنه علواً كبيراً كما في قوله تعالى : { هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } فالقصدُ مصدرٌ بمعنى الفاعل ، والمرادُ بالسبيل الجنسُ كما مر في قوله تعالى : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } معطوفٌ على الجملة الأولى والمعنى أن قصدَ السبيلِ واصلٌ إليه تعالى بالاستقامة وبعضُها منحرفٌ عنه ولو شاء لهداكم جميعاً إلى الأول ، وأنت خبيرٌ بأن هذا حقٌّ في نفسه ولكنه بمعزل عن نكتة موجبةٍ لتوسيطه بين ما سبق من أدلة التوحيدِ وبين ما لحِق ، ولمّا بُيِّن الطريقُ السمعيُّ للتوحيد على وجه إجماليَ وفصِّلَ بعضُ أدلتِه المتعلقة بأحوال الحيواناتِ ،


[482]:لحب الطريق لحوبا: وضح.