ثم ذكروا أنهم كانوا يسخرون من هؤلاء فقالوا : { أتخذناهم سخرياً } قرأ أهل البصرة ، وحمزة ، والكسائي : من الأشرار اتخذناهم ، وصل ويكسرون الألف عند الابتداء ، وقرأ الآخرون بقطع الألف وفتحها على الاستفهام . قال أهل المعاني : القراءة الأولى أولى ، لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخرياً فلا يستقيم الاستفهام ، وتكون ( ( أم ) ) على هذه القراءة بمعنى ( ( بل ) ) ، ومن فتح الألف قال : هو على اللفظ لا على المعنى ليعادل ( ( أم ) ) في قوله : { أم زاغت عنهم الأبصار } قال الفراء : هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجب ، { أم زاغت } ، أي : مالت ، { عنهم الأبصار } ، ومجاز الآية : ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخرياً لم يدخلوا معنا النار ، أم دخلوها فزاغت عنهم أبصارنا ، فلم نرهم حين دخلوها . وقيل : أم هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا ، وقال ابن كيسان : أم كانوا خيراً منا ولكن نحن لا نعلم ، فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئاً .
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ } أي : عدم رؤيتنا لهم دائر بين أمرين : إما أننا غالطون في عدنا إياهم من الأشرار ، بل هم من الأخيار ، وإنما كلامنا لهم من باب السخرية والاستهزاء بهم ، وهذا هو الواقع ، كما قال تعالى لأهل النار : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ }
والأمر الثاني : أنهم لعلهم زاغت أبصارنا عن رؤيتهم معنا في العذاب ، وإلا فهم معنا معذبون ولكن تجاوزتهم أبصارنا ، فيحتمل أن هذا الذي في قلوبهم ، فتكون العقائد التي اعتقدوها في الدنيا ، وكثرة ما حكموا لأهل الإيمان بالنار ، تمكنت من قلوبهم ، وصارت صبغة لها ، فدخلوا النار وهم بهذه الحالة ، فقالوا ما قالوا .
ويحتمل أن كلامهم هذا كلام تمويه ، كما موهوا في الدنيا ، موهوا حتى في النار ، ولهذا يقول أهل الأعراف لأهل النار : { أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
حكى القرآن ما سأله هؤلاء المشركون لأنفسهم عندما تلفتوا فى النار ، فلم يجدوا أحداً من المؤمنين الذين كانوا يصفونهم بأنهم من الأشرار فقال : { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار } .
أى : إنهم بعد أن دخلوا النار أخذوا يدورون بأعينهم فيها فلم يروا المؤمنين الذين كانوا يستهزئون بهم فى الدنيا ، فقالوا فيما بينهم : ما بالنا لا نرى الرجال الذين كنا نسخر منهم فى الدنيا ، ألم يدخلوا معنا النار ؟ أم دخلوها ولكن أبصارنا لا تراهم وزاغت عنهم ؟
فهم يتحسرون على أحوالهم البائسة بعد أن وجدوا أنفسهم فى النار ، وليس معهم من كانوا يسخرون منهم فى الدنيا وهم فقراء المؤمنين .
قال صاحب الكشاف : قوله : { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } قرئ بلفظ الإِخبار على أنه صفة للقوله { رجالا } مثل قوله { كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار } وقرئ بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها فى الاستسخار منهم .
وقوله : { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار } له وجهان من الاتصال : أحدهما : أن يتصل بقوله : { مالنا } أى : مالنا لا نراهم فى النار ؟ كأنهم ليسوا فيها ، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها ؟ قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنهم خفى عليهم مكانهم .
الوجه الثانى : أن يتصل بقوله : { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً . . } على معنى أى الفعلين فعلنا بهم : الاستسخار منهم ، أم الازدراء بهم والتحقير ، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم ، على معنى إنكار الأمرين جميعاً على أنفسهم . . .
ثم ماذا ? ثم ها هم أولاء يفتقدون المؤمنين ، الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا ، ويظنون بهم شراً ، ويسخرون من دعواهم في النعيم . ها هم أولاء يفتقدونهم فلا يرونهم معهم مقتحمين في النار ، فيتساءلون : أين هم ? أين ذهبوا ? أم تراهم هنا ولكن زاغت عنهم أبصارنا ? : وقالوا : ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً ? أم زاغت عنهم الأبصار ? . . بينما هؤلاء الرجال الذين يتساءلون عنهم هناك في الجنان !
{ أتخذناهم سخريا } صفة أخرى ل { رجالا } ، وقرأ الحجازيان وابن عامر وعاصم بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي { سخريا } بالضم وقد سبق مثله في " المؤمنين " . { أم زاغت } مالت . { عنهم الأبصار } فلا نراهم { أم } معادلة ل { ما لنا لا نرى } على أن المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم كأنهم قالوا : أليسوا ها هنا أم زاغت عنهم أبصارنا ، أو لاتخذناهم على القراءة الثانية بمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم تحقيرهم ، فإن زيغ الأبصار كناية عنه على معنى إنكارهما على أنفسهم ، أو منقطعة والمراد الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم وقصور أنظارهم على رثاثة حالهم .
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : { أتخذناهم سخرياً } بألف الاستفهام ، ومعناها : تقرير أنفسهم على هذا على جهة التوبيخ لها والأسف ، أي أتخذناهم سخرياً ولم يكونوا كذلك ، واستبعد معنى هذه القراءة أبو علي . وقرأ نافع وحمزة والكسائي : «سُخريا » بضم السين ، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر وابن مسعود وأصحابه ومجاهد والضحاك ، ومعناها : من السخرة والاستخدام . وقرأ الباقون : «سِخرياً » بكسر السين وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وعيسى وابن محيصن ومعناها المشهور من السخر الذي هو الهزء ، ومنه قول الشاعر [ عامر بن الحارث ] : [ البسيط ]
إني أتاني لسان لا أسر بها*** من علو لا كذب فيها ولا سخر
وقالت فرقة يكون كسر السين من التسخير .
و { أم } في قولهم : { أم زاغت } معادلة ل { ما } في قولهم : { ما لنا لا نرى } وذلك أنها قد تعادل { ما } ، وتعادل من ، وأنكر بعض النحويين هذا ، وقال : إنها لا تعادل إلا الألف فقط . والتقدير في هذه الآية : أمفقودون هم أم زاغت ؟ ومعنى هذا الكلام : أليسوا معنا أم هم معنا ولكن أبصرنا تميل عنهم فلا تراهم ؟ ، والزيغ : الميل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.