{ فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم } يعني من مشركي مكة ، { آثماً أو كفوراً } يعني وكفوراً ، والألف صلة . قال قتادة : أراد بالآثم الكفور أبا جهل وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها ، وقال : لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن عنقه . وقال مقاتل : أراد بالآثم : عتبة بن ربيعة ، وبالكفور الوليد بن المغيرة ، قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ، قال عتبة : فأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر ، وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى ، فارجع عن هذا الأمر ، فأنزل الله هذه الآية .
ولهذا قال : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } أي : اصبر لحكمه القدري ، فلا تسخطه ، ولحكمه الديني ، فامض عليه ، ولا يعوقك عنه عائق . { وَلَا تُطِعْ } من المعاندين ، الذين يريدون أن يصدوك { آثِمًا } أي : فاعلا إثما ومعصية ولا { كَفُورًا } فإن طاعة الكفار والفجار والفساق ، لا بد أن تكون في المعاصي ، فلا يأمرون{[1314]} إلا بما تهواه أنفسهم .
والفاء فى قوله : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } للإِفصاح . وعدى فعل الصبر باللام ، لتضمنه معنى الخضوع والاستسلام لقضائه - سبحانه - .
أى : ما دام الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاصبر لحكم ربك ، واخضع لقضائه ومشيئته ، فهو - سبحانه - الكفيل بنصرك عليهم .
وقوله : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } أى : ولا تطع - أيها الرسول الكريم - من هؤلاء المشركين ، من كان داعياً إلى الإثم والفجور ، أو من كان داعيا إلى الكفر والجحود .
ولم يقل - سبحانه - ولا تطع منهم آثمار وكفورا بالواو ، لأن الواو تجعل الكلام محتملا للنهى عن المجموع ، وأن طاعة أحدهما دون الآخر تكفى فى الامتثال .
ولذا قال الزجاج : إن " أو " هنا أَوْكد من الواو ، لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا ، فأطاع أحدهما كان غير عاص ، فإن أبدلتها بأو ، فقد دللت على أن كل واحد منهما ، أهل لأن يعصى ، ويعلم منه النهى عن إطاعتهما معاً .
والآثم : هو الفاجر بأقواله وأفعاله . والكفور : هو الجاحد بقلبه ولسانه .
ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه : تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإِنّ : تأكيد على تأكيد ، لمعنى اختصاص الله - تعالى - بالتنزيل ، ليتقرر فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل للقرآن ، لم يكن تنزيله على أى وجه نزل ، إلا حكمة وصوابا ، كأنه قيل : ما نزل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما ، إلا أنا لا غيرى ، وقد عرفتنى حكيما فاعلا لكل ما أفعله .
فإن قلت : كلهم كانوا كفرة ، فما معنى القسمة فى قوله : { آثِماً أَوْ كَفُوراً } ؟ قلت : معناه لا تطع منهم راكبا لماهو إثم ، داعيا لك إليه ، أو فاعلا لما هو كفر ، داعيا لك إليه . لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، داعيا لك إليه . لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم علىفعل إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كف : فنهى عن أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث . فإن قلت : معنى أو : ولا تطع أحدهما ، فهلا جئ بالواو وليكون نهيا عن طاعتهما جميعا ؟
قلت : لو قيل : ولا تطعهما ، جاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل : لا تطع أحدهما ، علم أن الناهى عن طاعة أحدهما : عن طاعتهما جميعا أنهى ، كما إذا نهى عن أن يقول لأبويه أف ، علم أنه منهى عن ضربهما بالطريق الأولى .
والمقصود من هاتين الآيتين تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتيئيس المشركين من استجابته صلى الله عليه وسلم لأى مطلب من مطالبهم الفاسدة .
( فاصبر لحكم ربك ، ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) . .
إن الأمور مرهونة بقدر الله . وهو يمهل الباطل ، ويملي للشر ، ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص . . كل أولئك لحكمة يعلمها ، يجري بها قدره ، وينفذ بها حكمه . . ( فاصبر لحكم ربك ) . . حتى يجيء موعده المرسوم . . اصبر على الأذى والفتنة . واصبر على الباطل يغلب ، والشر يتنفج . ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك . اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) . . فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير . فهم آثمون كفار . يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق ! وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك ! وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان ، وباسم شهوة المال ، وباسم شهوة الجسد . فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم والثراء ، حتى يكون أغنى من أغناهم ، كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات ، حيث كان عتبة بن ربيعة يقول له : " ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي ، فإني من أجمل قريش بنات ! " . . كل الشهوات التي يعرضها أصحاب الباطل لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل !
( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) . . فإنه لا لقاء بينك وبينهم ؛ ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم ، وتصورك للوجود كله عن تصورهم ، وحقك عن باطلهم ، وإيمانك عن كفرهم ، ونورك عن ظلماتهم ، ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم !
اصبر ولو طال الأمد ، واشتدت الفتنة وقوي الإغراء ، وامتد الطريق . .
فاصبر لحكم ربك بتأخير نصرك على كفار مكة وغيرهم ولا تطع منهم آثما أو كفورا أي كل واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه ومن الغالي في الكفر الداعي لك إليه وأو للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به والقسم باعتبار ما يدعونه إليه فإن ترتب النهي على الوصفين مشعر أنه لهما وذلك يستدعي أن تكون المطاوعة في الإثم والكفر فإن مطاوعتهما فيما ليس بإثم ولا كفر غير محظور .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فاصْبِرْ لِحُكُمِ رَبّكَ" يقول: اصبر لما امتحنك به ر بك من فرائضه، وتبليغ رسالاته، والقيام بما ألزمك القيام به في تنزيله الذي أوحاه إليك.
"وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أو كَفُورا" يقول: ولا تطع في معصية الله من مشركي قومك آثما يريد بركوبه معاصيه، أو كفورا: يعني جحودا لنعمه عنده، وآلائه قِبلَه، فهو يكفر به، ويعبد غيره.
وقيل: إن الذي عني بهذا القول أبو جهل. عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ عنقه، فأنزل الله: "وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فاصبر لحكم ربك} ففيه أنه ابتلاه بما تكرهه نفسه، ويشتد عليها، حتى دعاه إلى الصبر، لأن المرء لا يدعى إلى الصبر على النعم واللذات، وإنما يدعى إليه إذا ابتلي بالمكاره والبليّات، وقد صبر عليه السلام على المكاره لأنه أمر بمضادّة الجن والإنس، فانتصب لهم حتى آذوه كل الأذى، وهموا بقتله.
{ولا تطع منهم آثما أو كفورا} كأنه قال: ولا تطع من دعاك إلى ما دعاك إلى ما تأثم فيه، أو تكون كفورا، أو لا تجب الآثم أو الكفور إلى ما يدعوان إليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة؛ ولا تطع منهم أحداً قلة صبر منك على أذاهم وضجراً من تأخر الظفر، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {آثماً أو كفوراً} هو تخيير في أن يعرف الذي ينبغي أن لا يطيعه بأي وصف كان من هذين، لأن كل واحد منهم فهو آثم وهو كفور، ولم تكن الأمة حينئذ من الكثرة بحيث يقع الإثم على العاصي.
{فاصبر لحكم ربك} في تأخير الإذن في القتال، ونظيره {فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} أو يكون المعنى عاما في جميع التكاليف، أي فاصبر في كل ما حكم به ربك سواء كان ذلك تكليفا خاصا بك من العبادات والطاعات أو متعلقا بالغير وهو التبليغ وأداء الرسالة، وتحمل المشاق الناشئة من ذلك..
السؤال الثاني: أنه عليه السلام ما كان يطيع أحدا منهم، فما الفائدة في هذا النهي؟ (الجواب): المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد، لأجل ما تركب فيهم من الشهوات الداعية إلى الفساد، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده، لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم، ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم، لأنه لا بد له من الرغبة إلى الله والتضرع إليه في أن يصونه عن الشبهات والشهوات.
السؤال الرابع: كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله: {آثما أو كفورا}؟ (الجواب): {الكفور} أخبث أنواع الآثم، فخصه بالذكر تنبيها على غاية خبثه ونهاية بعده عن الله.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
...انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقرر أن من الناس من ترك الهدى الذي هو البيان، فعمي عنه لإعراضه عنه، سبب عن هذا الإنزال وذاك الضلال قوله منبهاً على أمراض القلوب، ومرشداً إلى دوائها: {فاصبر لحكم ربك} أي المحسن إليك بتخصيصه لك بهذه النعمة على ضلال من حكم بضلاله، وعلى كل ما ينوبك وأطعه في التعبد له بجميع ما أمرك به من الرفق إلى أن يأمرك بالسيف، واستعن على مر الصبر باستحضار أن المربي الشفيق يربي بما يشاء من المر والحلو على حسب علمه وحكمته، والصبر: حبس النفس وضبطها على مقاومة الهوى لئلا تنقاد إلى شيء من قبائح اللذات.
ولما أمره سبحانه بالصبر، وكان الأمر به مفهماً وجوده للمخالف، وكان المخالفون له صلى الله عليه وسلم هم القسم المضاد للشاكر وهم الكفرة، وكان ما يدعونه إليه تارة مطلق إثم، وأخرى كفراً وتارة غير ذلك، ذكر النتيجة ناهياً عن القسمين الأولين ليعلم أن المسكوت عنه لا نهي فيه فقال: {ولا تطع منهم} أي الكفرة الذين هم ضد الشاكرين {آثماً} أي داعياً إلى إثم سواء كان مجرداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له {أو كفوراً} أي مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا فإن الحق أكبر من كل كبير، وذلك أنهم كانوا مع شدة الأذى له صلى الله عليه وسلم يبذلون له الرغائب من الأموال، والتمليك والتزويج لأعظم نسائهم على أن يتبعهم على دينهم ويكف عما هو عليه والنهي عن الأحد المبهم فهي عن كل منهما، فإن كلاًّ منهما في أنه يجب اجتنابه في رتبة واحدة
{وذروا ظاهر الإثم وباطنه} [الأنعام: 120] وكذا الانتهاء عنه لا يتحقق إلا بالانتهاء عن كل منهما، ولو عطف بالواو لم يفد ذلك لأن نفي الاثنين لا يستلزم نفي كل منهما، وأفهم ترتيب النهي على الوصفين أنه إذا دعاه الكفار إلى ما لا يتعلق به إثم ولا كفر جاز له قبوله.