التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورٗا} (24)

وعدي فعل ( اصبر ) باللام لتضمن الصبر معنى الخضوع والطاعة للأمر الشاق ، وقد يعدّى بحرف ( على ) كما قال تعالى : { واصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] . ومناسبة مقام الكلام ترجح إحدى التعديتين كما تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { ولربك فاصبر } في سورة المدثر ( 7 ) .

ولما كان من ضروب إِعراضهم عن قبول دعوته ضربٌ فيه رغبات منهم مثل أن يَترك قرعهم بقوارع التنزيل من تأفين رأيهم وتحقير دينهم وأصنامهم ، وربما عرضوا عليه الصِهْر معهم ، أو بذْلَ المال منهم ، أُعقب أمره بالصبر على ما هو من ضروب الإِعراض في صلابة وشدة ، بأن نهاه عن أن يطيعهم في الضرب الآخر من ضروب الإِعراض الواقع في قالَب اللين والرغبة .

وفي هذا النهي تأكيد للأمر بالصبر لأن النهي عنه يشمل كل ما يرفع موجبات الصبر المراد هنا .

والمقصود من هذا النهي تأييسهم من استجابته لهم حين يقرأ عليهم هذه الآية لأنهم يحسبون أن ما عرضوه عليه سيكون صارفاً له عما هو قائم به من الدعوة إِذْ هم بُعَداء عن إدراك ماهية الرسالة ونزاهة الرسول .

والطاعة : امتثال الطلب بفعل المطلوب وبالكف عن المنهي عنه فقد كان المشركون يعمدون إلى الطلب من النبي أن يفعل ما يرغبون ، مثل طرد ضعفاء المؤمنين من المجلس ، والإِتيان بقرآن غير هذا أو تبديله بما يشايع أحوالهم ، وأن يكف عما لا يريدون وقوعه من تحقير آلهتهم ، والجهرِ بصلاته ، فحذره الله من الاستماع لقولهم وإياسهم من حصول مرغوبهم .

ومقتضى الظاهر أن يقول : ولا تطعهم ، أو ولا تطع منهم أحداً ، فعدل عنه إلى آثماً أو كفوراً } للإِشارة بالوصفين إلى أن طاعتهم تفضي إلى ارتكاب إثم أو كفر ، لأنهم في ذلك يأمرونه وينهونه غالباً فهم لا يأمرون إلاّ بما يلائم صفاتهم .

فالمراد بالآثم والكفور : الصنفان من الموصوفين وتعليق الطاعة المنهي عنها بهذين النوعين مُشعر بأن الوصفين علة في النهى .

والآثِم والكفُور مُتَلازِمَانِ فكان ذكر أحد الوصفين مغنياً عن الآخر ولكن جُمع بينهما لتشويه حال المتصف بهما قال تعالى : { والله لا يحب كل كفّار أثيم } [ البقرة : 276 ] .

وفي ذكر هذين الوصفين إشارة أيضًا إلى زعيمين من زعماء الكفر والعناد وهما عُتبة ابن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، لأن عتبة اشتهر بارتكاب المآثم والفسوق ، والوليد اشتهر بشدة الشكيمة في الكفر والعتوّ . وقد كانا كافرَيْن فأشير إلى كل واحد منهما بما هو علَم فيه بين بقية المشركين من كثرة المآثم لأولهما . والمبالغةُ في الكفر لثانيهما ، فلذلك صيغت له صيغة المبالغة ( كَفور ) .

قيل عرض عتبة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوة الناس إلى الإسلام ويزوجه ابنته وكانت من أجمل نساء قريش . وعرض الوليد عليه أن يعطيه من المال ما يرضيه ويرجع عن الدعوة ، وكان الوليد من أكثر قريش مالاً وهو الذي قال الله في شأنه : { وجعَلْتُ له مالاً ممدوداً } [ المدثر : 12 ] . فيكون في إيثار هذين الوصفين بالذكر إدماج لذمهما وتلميح لقصتهما .

وأيَّامَّا كان فحرف { أو } لم يعْدُ أصل معناه من عطف تشريك أحد شيئين أو أشياء في خبر أو طَلب ، وهذا التشريك يفيد تخييراً ، أو إباحةً ، أو تقسيماً ، أو شكاً ، أو تشكيكاً بحسب المواقع وبحسب عوامل الإِعراب ، لتدخل { أو } التي تُضمر بعدها ( أنْ ) فتنصبُ المضارع . وكون المشرَّك بها واحداً من متعدد مُلازم لمواقعها كلها .

فمعنى الآية نهي عن طاعة أحد هذين الموصوفين ويعلم أن طاعة كليهما منهي عنها بدلالة الفحوى لأنه إذا أطاعهما معاً فقد تحقق منه طاعة أحدهما وزيادة .

وموقع { منهم } موقعُ الحال من { آثماً } فإنه صفة { آثماً } فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالاً .

و ( مِنْ ) للتبعيض . والضمير المجرور بها عائد للمشركين ، ولم يتقدم لهم ذكر لأنهم معلومون من سياق الدعوة أو لأنهم المفهوم من قوله : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } أي لا كما يزعم المشركون أنك جئت به من تلقاء نفسك ، ومن قوله : { فاصبر لحكم ربك ، } أي على أذى المشركين .

ويؤول المعنى : ولا تطع أحداً من المشركين .