اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورٗا} (24)

{ فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : لقضاء ربك .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : اصبر على أذى المشركين ، ثم نسخ بآية القتال .

وقيل : اصبرْ لما حكم به عليك من الطَّاعات ، أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة ، { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً } أي : ذا إثمٍ { أَوْ كَفُوراً } أي : لا تطع الكفار .

روى معمر عن قتادة ، قال : قال أبو جهل : إن رأيتُ محمداً لأطأنَّ على عنقه ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً }{[58963]} .

وقيل : نزلت في عتبة بن أبي ربيعة والوليد بن المغيرة ، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوة ففيهما نزلت ، وعرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء ، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ، ويترك ما هو عليه ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أول «حم » السجدة ، إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 1-13 ] ، فانصرفا عنه وقال أحدهما : ظننت أنَّ الكعبة ستقع عليَّ .

قوله : { أَوْ كَفُوراً } . في «أوْ » هذه أوجه :

أحدها : أنها على بابها ، وهو قول سيبويه .

قال أبو البقاء : وتفيد في النهي عن الجميع ، لأنك إذا قلت في الإباحة : جالس الحسن أو ابن سيرين كان التقدير : جالس أحدهما ، فإذا نهي قال : لا تكلم زيدا أو عمرا ، فالتقدير : لا تكلم أحدهما ، فأيهما كلمه كان أحدهما فيكون ممنوعاً منه ، فكذلك في الآية ، ويؤول المعنى إلى تقدير : ولا تطع منهما آثماً ولا كفوراً .

قال الزمخشري رحمه الله : فإن قلت : معنى «أو » ولا تطع أحدهما ، فهلا جيء بالواو لتكون نهياً عن طاعتهما جميعاً ؟ .

قلت : لو قال : لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل : لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما هو عن طاعتهما جميعاً أنهى ، كما إذا نهي أن يقول لأبويه : «أفٍّ » علم أنه منهي عن ضربهما على طريق الأولى .

الثاني : أنها بمعنى «لا » أي : لا تطع من أثم ولا من كفر .

قال مكي : «وهو قول الفراء ، وهو بمعنى الإباحة التي ذكرنا » .

الثالث : أنها بمعنى الواو ، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين .

والكفور وإن كان يستلزم الإثم إلا أنه عطف لأحد أمرين :

إما أن يكونا شخصين بعينهما كما تقدم فالآثم عتبة ، والكفور الوليد .

وإما لما قاله الزمخشري : «فإن قلت : كانوا كلهم كفرةً ، فما معنى القسمة في قوله «آثماً أو كفوراً ؟ .

قلت : معنا لا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه ، لأنهم إمَّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث » .

فصل

قال ابن الخطيب{[58964]} : قوله تعالى : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } يدخل فيه ألاَّ تطع فيه آثماً أو كفوراً ، فكأن ذكره بعد ذلك تكرار ؟ .

والجواب : أن الأول أمر بالمأمورات ، والثاني : نهي عن المنهيات ، ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح ، فيكون التصريح منه مفيداً .

فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطيع أحداً منهم ، فما فائدة هذا النهي ؟ .

فالجواب : أن المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى الفساد ، وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله - تعالى - وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم - عليه الصلاة والسلام - ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم أنه لا بدَّ من الرغبة إلى الله - تعالى - والتضرع إليه أن يصونه عن الشُّبهات والشَّهوات .

فإن قيل : ما الفرقُ بين الآثم والكفور ؟ .

فالجواب : أن الآثم هو الآتي بالمعاصي أيِّ معصيةٍ كانت ، والكفُور : هو الجاحد للنعمة ، فكل كفور آثم ، وليس كل آثم كفوراً ، لأن الإثم عام في المعاصي كلها ، قال الله تعالى : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } [ النساء : 48 ] .

فسمى الشرك آثماً ، وقال تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وقال تعالى : { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 120 ] ، وقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] . قد نزلت هذه الآيات على أن الإثم جميع المعاصي .


[58963]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/373) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/490) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
[58964]:ينظر الفخر الرازي 30/228.