{ 47 - 52 } { فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }
يقول تعالى : { فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } بنجاتهم ونجاة أتباعهم وسعادتهم وإهلاك أعدائهم وخذلانهم في الدنيا وعقابهم في الآخرة ، فهذا لا بد من وقوعه لأنه ، وعد به الصادق قولا على ألسنة أصدق خلقه وهم الرسل ، وهذا أعلى ما يكون من الأخبار ، خصوصا وهو مطابق للحكمة الإلهية ، والسنن الربانية ، وللعقول الصحيحة ، والله تعالى لا يعجزه شيء فإنه { عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام }
وقوله - سبحانه - : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ . . . } تفريع على ما تقدم من قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون . . } وتأكيد لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولتثبيت يقينه .
وقوله { مخلف } اسم فاعل من الأخلاف ، بمعنى عدم الوفاء بالوعد وهو مفعول ثان لتحسب والمراد بالوعد هنا : ما وعد الله - تعالى - به أنبياءه ورسله من نصره إياهم ، ومن جعل العاقبة لهم .
قال - تعالى - { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } وقال - تعالى - { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } والمعنى : لقد وعدناك - أيها الرسول الكريم - بعذاب الظالمين ، وأخبرناك بجانب من العذاب الذى سيحل بهم يوم القيامة ، وما دام الأمر كذلك فاثبت على الحق أنت وأتباعك ، وثق بأن الله - تعالى - لن يخلف ما وعدك به من نصر على أعدائك .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : مخلف رسله وعده ، ولم قدم المفعول الثانى لمخلف - وهو : وعده - على المفعول الأول - وهو رسله - ؟
قلت : قدم الوعد ليعلم أنه - سبحانه - لا يخلف الوعد أصلا ، كقوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } ثم قال { رسله } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلا المواعيد ، فكيف يخلفه مع رسله الذين هم خيرته وصفوته من خلقه . .
ويرى صاحب الانتصاف أن تقدم المعفول الثانى هنا ، إنما هو للإِيذان بالعناية به ، لأن الآية فى سياق الإِنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله - تعالى - به على ألسنة رسله ، فكان المهم فى هذه الحال تقديم ذكر الوعيد على غيره .
وقوله - سبحانه - { إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام } تعليل للنهى عن الحسبان المذكور .
أى : إن الله - تعالى - غالب على كل شئ ، وذو انتقام شديد من أعدائه لأنهم تحت قدرته ، وما دام الأمر كذلك فإخاف الوعد منتف فى حقه - تعالى - .
( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله . إن الله عزيز ذو انتقام ) . .
فما لهذا المكر من أثر ، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر :
( إن الله عزيز ذو انتقام ) . .
لا يدع الظالم يفلت ، ولا يدع الماكر ينجو . . وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر ، فالظالم الماكر يستحق الانتقام ، وهو بالقياس إلى الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم ، تحقيقا لعدل الله في الجزاء .
يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا : { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } أي : من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع{[16004]} عليه شيء أراده ، ولا يغالب ، وذو انتقام ممن{[16005]} كفر به وجحده { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [ الطور : 11 ] ؛ ولهذا قال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } أي : وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة ، كما جاء في الصحيحين ، من حديث أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء ، كقرصة النقي ، ليس فيها معلم لأحد " {[16006]} .
وقوله : { فلا تحسبن الله } الآية ، تثبيت للنبي عليه السلام ولغيره من أمته ، ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسب مثل هذا ، ولكن خرجت العبارة هكذا ، والمراد بما فيها من الزجر من شارك النبي عليه السلام في أن قصد تثبيته .
وقرأ جمهور الناس «مخلف وعده » بالإضافة ، «رسلَه » بالنصب ، وإضافة «مخلف » إلى الوعد ، إذ للإخلاف تعلق بالوعد على تجوز ، وإنما حقيقة تعلقه بالرسل ، وهذا نحو قول الشاعر : [ الطويل ]
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه . . . وسائره باد إلى الشمس أجمع{[7104]}
وكقولك : هذا معطي درهم زيداً . وقرأت فرقة : «مخلف وعدَه رسلِه » بنصب الوعد وخفض الرسل ، على الإضافة ، وهذه القراءة ذكرها الزجاج وضعفها ، وهي تحول بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وهي كقول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
فزججتها بمزجّة . . . زج القلوص أبي مزادة
وأما إذا حيل في نحو هذا بالظرف فهو أشهر في الكلام كما قال الشاعر :
لله در اليوم من لامها{[7105]} . . . وقال آخر : [ الوافر ]
كما خط الكتاب بكفِّ يوماً . . . يهوديٍّ يقارب أو يزيل{[7106]}
والمعنى : لا تحسب يا محمد - أنت ومن اعتبر بالأمر من أمتك وغيرهم - أن الله لا ينجز ميعاده في نصره رسله ، وإظهارهم ، ومعاقبة من كفر بهم ، في الدنيا أو في الآخرة ، فإن الله عزيز لا يمتنع منه شيء ، ذو انتقام من الكفرة لا سبيل إلى عفوه عنهم .
تفريع على جميع ما تقدم من قوله : { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } [ إبراهيم : 42 ] . وهذا محل التسلية . والخطاب للنبيء . وتقدم نظيره آنفاً عند قوله : ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، لأن تأخير ما وعد الله رسوله عليه الصلاة والسلام من إنزال العقاب بأعدائه يشبه حال المخلف وعده ، فلذلك نهي عن حُسبانه .
وأضيف { مخلف } إلى مفعوله الثاني وهو { وعده } وإن كان المفعول الأول هو الأصل في التقديم والإضافة إليه لأن الاهتمام بنفي إخلاف الوعد أشد ، فلذلك قدم { وعده } على { رسله } .
و { رسله } جمع مراد به النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة ، فهو جمع مستعمل في الواحد مجازاً . وهذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به . فأما وعده للرسل السابقين فذلك أمر قد تحقق فلا يناسب أن يكون مراداً من ظاهر جمع { رسله } .
وجملة { إن الله عزيز ذو انتقام } تعليل للنهي عن حُسبانه مُخلف وعده .
والعزة : القدرة . والمعنى : أن موجب إخلاف الوعد منتف عن الله تعالى لأن إخلاف الوعد يكون إما عن عَجز وإما عن عدم اعتياد الموعود به ، فالعزة تنفي الأول وكونُه صاحب انتقام ينفي الثاني . وهذه الجملة تذييل أيضاً وبها تمّ الكلام .