البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (47)

والنهي عن الحسبان كهو في قوله : { ولا تحسبن الله غافلاً } وأطلق الحسبان على الأمر المتحقق هنا كما قال الشاعر :

فلا تحسبن أني أضل منيتي . . . ***فكل امرئ كأس الحِمام يذوق

وهذا الوعد كقوله تعالى : { إنا لننصر رسلنا } { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } وقرأ الجمهور بإضافة مخلف إلى وعده ، ونصب رسله .

واختلف في إعرابه فقال الجمهور .

الفراء ، وقطرب ، والحوفي ، والزمخشري ، وابن عطية ، وأبو البقاء : إنه مما أضيف فيه اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم : هذا معطي درهم زيداً ، لما كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل واحد منهما ، فينتصب ما تأخر .

وأنشد بعضهم نظيراً له قول الشاعر :

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ***وسائره باد إلى الشمس أجمع

وقال أبو البقاء : هو قريب من قولهم : يا سارق الليلة أهل الدار .

وقال الفراء وقطرب : لما تعدى الفعل إليهما جميعاً لم يبال بالتقديم والتأخير .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قيل مخلف رسله وعده ، ولم قدم المفعول الثاني على الأول ؟ ( قلت ) : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً لقوله : { إن الله لا يخلف الميعاد } ثم قال : رسله ، ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته ؟ انتهى .

وهو جواب على طريقة الاعتزال في أنّ وعد الله واقع لا محالة ، فمن وعده بالنار من العصاة لا يجوز أن يغفر له أصلاً .

ومذهب أهل السنة أنّ كل ما وعد من العذاب للعصاة المؤمنين هو مشروط إنفاذه بالمشيئة .

وقيل : مخلف هنا متعد إلى واحد كقوله : { لا يخلف الميعاد } فأضيف إليه ، وانتصب رسله بوعده إذ هو مصدر ينحل بحرف مصدري والفعل كأنه قال : مخلف ما وعد رسله ، وما مصدرية ، لا بمعنى الذي .

وقرأت فرقة : مخلف وعده رسله بنصب وعده ، وإضافة مخلف إلى رسله ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وهو كقراءة .

قتل أولادهم شركائهم ، وتقدم الكلام عليه مشبعاً في الأنعام .

وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى ، وأنه مما تعدى فيه مخلف إلى مفعولين .

إنّ الله عزيز لا يمتنع عليه شيء ولا يغالب ذو انتقام من الكفرة لا يعفو عنهم .