قوله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } الآية . قال محمد بن كعب القرظي : " لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً ، قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : أشترط لربي عز وجل : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي ، أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال :الجنة ، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } . وقرأ الأعمش : { بالجنة } . { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } ، قرأ حمزة والكسائي : " فيقتلون " بتقديم المفعول على الفاعل بمعنى يقتل بعضهم بعضا ، ويقتل الباقون . وقرأ الآخرون بتقديم الفاعل . { وعدا عليه حقا } أي : ثواب الجنة لهم وعد وحق { في التوراة والإنجيل والقرآن } ، يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد ، وبينه في هذه الكتب . وقيل فيه دليل على أن أهل الملل كلهم أمروا بالجهاد على ثواب الجنة ، ثم هنأهم فقال : { ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا } ، فافرحوا { ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله عز وجل بايعك وجعل الصفقتين لك . وقال قتادة ثامنهم الله عز وجل فأغلى لهم . وقال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن . وعنه أنه قال : إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها .
{ 111 } { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
يخبر تعالى خبرا صدقا ، ويعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة ، ومعاوضة جسيمة ، وهو أنه { اشْتَرَى ْ } بنفسه الكريمة { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ْ } فهي المثمن والسلعة المبيعة .
{ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ْ } التي فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين من أنواع اللذات والأفراح ، والمسرات ، والحور الحسان ، والمنازل الأنيقات .
وصفة العقد والمبايعة ، بأن يبذلوا للّه نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه ، لإعلاء كلمته وإظهار دينه ف { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ْ } فهذا العقد والمبايعة ، قد صدرت من اللّه مؤكدة بأنواع التأكيدات .
{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ْ } التي هي أشرف الكتب التي طرقت العالم ، وأعلاها ، وأكملها ، وجاء بها أكمل الرسل أولو العزم ، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق .
{ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا ْ } أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه ، { بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ْ } أي : لتفرحوا بذلك ، وليبشر بعضكم بعضا ، ويحث بعضكم بعضا .
{ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ } الذي لا فوز أكبر منه ، ولا أجل ، لأنه يتضمن السعادة الأبدية ، والنعيم المقيم ، والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات ، وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة ، فانظر إلى المشتري من هو ؟ وهو اللّه جل جلاله ، وإلى العوض ، وهو أكبر الأعواض وأجلها ، جنات النعيم ، وإلى الثمن المبذول فيها ، وهو النفس ، والمال ، الذي هو أحب الأشياء للإنسان .
وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع ، وهو أشرف الرسل ، وبأي كتاب رقم ، وهي كتب اللّه الكبار المنزلة على أفضل الخلق .
وبعد أن بين - سبحانه - أنواع المتخلفين عن غزوة تبوك ، تبع ذلك بالترغيب في الجهاد وفى بيان فضله فقال - تعالى - : { إِنَّ الله اشترى . . } .
قال الفخر الرازى : أعلم الله - تعالى - لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع كل قسم ما كان لائقا به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحيقته فقال - تعالى - : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين } الآية .
وقال القرطبى : " نزلت هذه الآية في البيعة الثانية ، وهى بيعة العقبة الكبرى وهى التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة ، فقال عبد الله بن رواحة للنبى - صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشكروا به شيئا ، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فإذا فعلنا فمالنا ؟ قال :
" لكم الجنة " قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقبل فنزلت هذه الآية " .
ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة . تثميل للثواب الذي منحه الله - تعالى - للمجاهدين في سبيله .
فقد صور - سبحانه - جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابته - سبحانه - لهم على ذلك بالجنة ، صور كل ذلك بالبيع والشراء .
أى : أن الله - تعالى - وهو المالك لكل شئ ، قد اشترى من المجاهدين أنسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله ، وأعطاهم في مقابل ذلك الجنة .
قال أبو السعود : الآية الكريمة ترغيب للمؤمنين في الجهاد . . وقد بلوغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه ، حيث عبّر عن قبول الله - تعالى - من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوا في سبيله - تعالى - وإثباته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية . ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد : أنفس المؤمنين وأموالهم ، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة : الجنة .
ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ؛ ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة ، وما بله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأمول وسيلة إليها ، إيذانا بتعليق كمال العناية بهم وبأوالهم .
ثم إن لم يقل " بالجنة " بل قل : { بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم " واختصاصه بهم " فكأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم .
وقوله : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } جملة مستأنفة جئ بها لبيان الوسيلة التي توصلهم إلى الجنة وهى القتال في سبيل الله .
أى : أنهم يقاتلون في سبيل الله ، فمنهم من يقتل أعداء الله ، ومنهم من يقتل على أيدى هؤلاء الأعداء ، وكلا الفريقين القاتل والمقتول جزاؤه الجنة .
وقرأ حمزة والكسائى " فيقتلون ويقتلون " بتقديم الفعل المبنى للمفعول على الفعل المبنى للفاعل .
وهذه القراءة فيها إشارة إلا أن حرص هؤلاء المؤمنين الصادقين على الاستشهاد أشد من حرصهم على النجاة من القتل ؛ لأن هذا الاستشهاد يوصلهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، وإلى الحياة الباقية الدائمة . .
وقوله : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن } تأكيد للثمن الذي وعدهم الله به .
أى : أن هذه الجنة التي هي جزاء المجاهدين ، قد جعلها - سبحانه - تفضلا منه وكرما ، حقا لهم عليه ، وأثبت لهم ذلك في الكتب السماوية التي أنزلها على رسله .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : " وعدا عليه " مصدر مؤكد لمضمون الجملة وقوله " حقا " نعت له ، وقوله " عليه " في موضع الحال من قوله " حقا " لتقدمه عليه ، وقوله : { فِي التوراة والإنجيل والقرآن } متعلق بمذحوف وقع نعتا لقوله " وعدا " أيضاً .
أى : وعدا مثبتاً في التوراة والإِنجيل كما هو مثبت في القرآن فالمراد إلحاق مالا يعرف بما يعرف . إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن . ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بذلك ، أو أن من جاهد بنفسه وماله . من حقه ذلك ، وفى كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن . .
وقوله : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } جملة معترضة مسوقة لتأكيد مضمون ما قبلها من حقية الوعد وتقريره : والاستفهام للنفى .
أى : لا أحد أوفى بعهده من الله - تعالى - لأنه إذا كان خلف الوعد لا يكاد يصدر من كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم ، فكيف يكون الحال من جانب الخالق - عز وجل - المنزه عن كل نقص ، المتصف بكل كمال .
وقوله : { فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } تحريض على القتال ، وإعلام لهم بأنهم رابحون في هذه الصفقة .
والاستبشار : الشعور بفرح البشرى ، شعورا تنبسط له أسارير الوجه .
أى : إذا كان الأمر كذلك فافرحوا ببيعكم الذي بايعتم به غاية الفرح ، وارضوا به نهاية الرضى ، فإن ذلك البيع هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه .
قال بعض العلماء : ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية لأنه أبرزه في صورة عقد عقده رب العزة ، وثمنه مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المقعود عليه كونهم مقتولين فقط بل إذا كانوا قاتلين أيضاً لإعلاء كلمته ، ونصر دينه ، وجعله مسجلا في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك .
وجعل وعده حقاً ، ولا أحد أوفى من وعده فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية ، حيث صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثباة الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء وأتى بقوله : " يقاتلون " . . بيانا لمكان التسليم وهو المعركة وإليه الإِشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - " الجنة تحت ظلال السيوف " ، ثم أمضاه بقوله { وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } .
ويروى عن الحسن البصرى أنه قرأ هذه الآية فقال : انظروا إلى كرم الله . تعالى . أنفس هو خالقها ، وأموال هو رازقها ، ثم يكافئنا عليها متى بذلناها في سبيله بالجنة .
( إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون ، وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من اللّه ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم . التائبون العابدون الحامدون السائحون ، الراكعون الساجدون ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، والحافظون لحدود اللّه ، وبشر المؤمنين ) . .
هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات ، في أثناء حفظي للقرآن ، وفي أثناء تلاوته ، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان . . هذا النص - حين واجهته في " الظلال " أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان !
إنه نص رهيب ! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه ، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة . فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف [ المؤمن ] وتتمثل فيه حقيقة الإيمان . وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق !
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة - أن اللّه - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم ؛ فلم يعد لهم منها شيء . . لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله . لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . . كلا . . إنها صفقة مشتراة ، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء ، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد ، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم ، لا يتلفت ولا يتخير ، ولا يناقش ولا يجادل ، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . . والثمن : هو الجنة . . والطريق : هو الجهاد والقتل والقتال . . والنهاية : هي النصر أو الاستشهاد :
( إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون ) . .
من بايع على هذا . من أمضى عقد الصفقة . من ارتضى الثمن ووفى . فهو المؤمن . . فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا . . ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا ، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال ، وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً ؛ وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع اللّه - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده ؛ وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة : . . شر البهيمة . . ( إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ) . . كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء .
وإنها لبيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن - قادر عليها - لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه . ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات :
( إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون ) . .
عونك اللهم ! فإن العقد رهيب . . وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم " مسلمين " في مشارق الأرض ومغاربها ، قاعدون ، لا يجاهدون لتقرير ألوهية اللّه في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد . ولا يقتلون . ولا يقتلون . ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال !
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول اللّه - [ ص ] - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ؛ ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم ، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم . كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها . لتحويلها إلى حركة منظورة ، لا إلى صورة متأملة . . هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة - رضي اللّه عنه - في بيعة العقبة الثانية . قال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة رضي اللّه عنه ، لرسول اللّه - [ ص ] - [ يعني ليلة العقبة ] - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال :
" الجنة " " . قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل . .
هكذا . . " ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل " . . لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين ؛ انتهى أمرها ، وأمضي عقدها ، ولم يعد إلى مرد من سبيل : " لا نقيل ولا نستقيل " فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ؛ والجنة : ثمن مقبوض لا موعود ! أليس الوعد من اللّه ? أليس اللّه هو المشتري ? أليس هو الذي وعد الثمن . وعداً قديماً في كل كتبه :
( وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ) . .
( ومن أوفى بعهده من اللّه ? ) .
أجل ! ومن أوفى بعهده من اللّه ?
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . . كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه . . إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها : ( ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) . . ( ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً ) . .
إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه . ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق ! . . بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . . إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . . بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . . ولا بد لدين الله أن ينطلق في " الأرض " كلها لتحرير " الإنسان " كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً ! . . وما دام في " الأرض " كفر . وما دام في " الأرض " باطل . وما دامت في " الأرض " عبودية لغير اللّه تذل كرامة " الإنسان " فالجهاد في سبيل اللّه ماض ، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء . وإلا فليس بالإيمان : و " من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو ، مات على شعبة من النفاق " . . . [ رواه الإمام أحمد ، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ] .
( فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ) .
استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم للّه ، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً ، كما وعد اللّه . . وما الذي فات ? ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة ? واللّه ما فاته شيء . فالنفس إلى موت ، والمال إلى فوت . سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل اللّه أم في سبيل سواه ! والجنة كسب . كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة ! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك !
ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش للّه . ينتصر - إذا انتصر - لإعلاء كلمته ، وتقرير دينه ، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه . ويستشهد - إذا استشهد - في سبيله ، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة . ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة - أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض ، والإيمان ينتصر فيه على الألم ، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة .
إن هذا وحده كسب . كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة ؛ وانتصار الإيمان فيه على الألم ، وانتصار العقيدة فيه على الحياة . . فإذا أضيفت إلى ذلك كله . . الجنة . . فهو بيع يدعو إلى الاستبشار ؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال :
( فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ) .
ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية :
( وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ) . .
فوعد اللّه للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور . . وهو لا يدع مجالا للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل اللّه في طبيعة هذا المنهج الرباني ؛ باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري - لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه - ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي ، يحمي نفسه بالقوة المادية ؛ ويقاوم دين اللّه وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك ؛ ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية اللّه وحده للعباد ، وتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد . كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد . . ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في " الأرض " لتحقيق إعلانه العام بتحرير " الإنسان " أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية ؛ والتي تحاول بدورها - في حتمية لا فكاك منها - أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري ، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد !
فأما وعد اللّه للمجاهدين في التوراة والإنجيل . فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان . .
إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما اللّه على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام ! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها ؛ وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين ؛ ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة . . وهو قليل . . أضيف إليه الكثير !
ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد ، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين ، لنصر إلههم وديانته وعبادته ! وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم للّه - سبحانه - وتصورهم للجهاد في سبيله .
فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد . . ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية ؛ فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها - بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم ! - وقبل ذلك بشهادة اللّه سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
واللّه سبحانه يقول في كتابه المحفوظ : إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون ؛ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن . . فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال !
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . كل مؤمن على الإطلاق . منذ كانت الرسل ، ومنذ كان دين اللّه . .
يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة ، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له ؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم .
وقال شَمِر بن عطية : ما من مسلم إلا ولله ، عز وجل ، في عُنُقه بيعة ، وفَّى بها أو مات عليها ، ثم تلا هذه الآية .
ولهذا يقال : من حمل في سبيل الله بايع الله ، أي : قَبِل هذا العقد ووفى به .
وقال محمد بن كعب القُرَظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة ، رضي الله عنه ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبةِ - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ! فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . قالوا : رَبِح البيعُ ، لا نُقِيل ولا نستقيل ، فنزلت :{[13877]} { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية .
وقوله : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي : سواء قتلوا أو قُتلوا ، أو اجتمع لهم هذا وهذا ، فقد وجبت لهم الجنة ؛ ولهذا جاء في الصحيحين : " وتكفل الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ، وتصديق برسلي ، بأن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه ، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " . {[13878]} وقوله : { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } تأكيد لهذا الوعد ، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة ، وأنزله على رسله في كتبه الكبار ، وهي{[13879]} التوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزل على عيسى ، والقرآن المنزل على محمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
وقوله : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } [ أي : ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله ]{[13880]} فإنه لا يخلف الميعاد ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا } [ النساء : 87 ] { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا } [ النساء : 122 ] ؛ ولهذا قال : { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد ، بالفوز العظيم ، والنعيم{[13881]} المقيم .
وقوله { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } الآية ، هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو ، وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة فقالوا : اشترط لك ولربك ، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة ، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم ، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة ، فقالوا : ما لنا على ذلك ؟ قال الجنة ، فقالوا : نعم ربح البيع لا نقيل ولا نقال ، وفي بعض الروايات ولا نستقيل فنزلت الآية في ذلك .
ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، وقال بعض العلماء : ما من مسلم إلا ولله في عنقه هذه البيعة وفى بها أو لم يف ، وفي الحديث أن فوق كل بر براً حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك{[5919]} ، وهذا تمثيل من الله عز وجل جميل صنعه بالمبايعة ، وذلك أن حقيقة المبايعة أن تقع بين نفسين بقصد منهما وتملك صحيح ، وهذه القصة وهب الله عباده أنفسهم وأموالهم ثم أمرهم ببذلها في ذاته ووعدهم على ذلك ما هو خير منها ، فهذا غاية التفضل ، ثم شبه القصة بالمبايعة ، وأسند الطبري عن كثير من أهل العلم أنهم قالوا : ثامن الله تعالى في هذه الآية عباده فأعلى لهم وقاله ابن عباس والحسن بن أبي الحسن ، وقال ابن عيينة : معنى الآية اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعة الله ، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله .
قال القاضي أبو محمد : فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله ، ومبايعة الخلفاء هي منتزعة من هذه الآية ، كان الناس يعطون الخلفاء طاعتهم ونصائحهم وجدهم ويعطيهم الخلفاء عدلهم ونظرهم والقيام بأمورهم ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع الواعظ أبا الفضل بن الجوهري يقول على المنبر بمصر : ناهيك من صفقة البائع فيها رب العلى والثمن جنة المأوى والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وقوله { يقاتلون في سبيل الله } مقطوع ومستأنف وذلك على تأويل سفيان بن عيينة ، وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين فهو في موضع الحال ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وقتادة وأبو رجاء وغيرهم : «فيَقتلون » على البناء للفاعل «ويُقتلون » على البناء للمفعول ، وقرأ حمزة والكسائي والنخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش بعكس ذلك ، والمعنى واحد إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون فيوجد فيهم من يَقتل وفيهم من يُقتل وفيهم من يجتمعان له وفيهم من لا تقع له واحدة منهما ، وليس الغرض أن يجتمع ولا بد لكل واحد واحد ، وإذا اعتبر هذا بان{[5920]} ، وقوله سبحانه { وعداً عليه حقاً } مصدر مؤكد لأن ما تقدم من الآية هو في معنى الوعد فجاء هو مؤكداً لما تقدم من قوله : { بأن لهم الجنة } ، وقال المفسرون : يظهر من قوله : { في التوراة والإنجيل والقرآن } ، أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن ميعاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقدم ذكره في هذه الكتب ، وقوله { ومن أوفى بعهده من الله } استفهام على جهة التقرير أي لا أحد أوفى بعهده من الله ، وقوله { فاستبشروا } فعل جاء فيه استفعل بمعنى أفعل وليس هذا من معنى طلب الشيء ، كما تقول : استوقد ناراً واستهدى مالاً واستدعى نصراً بل هو كعجب واستعجب{[5921]} ، ثم وصف تعالى ذلك البيع بأنه { الفوز العظيم } ، أي أنه الحصول على الحظ الأغبط من حط الذنوب ودخول الجنة بلا حساب{[5922]} .
استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العُسْرة ، ليكون توطئة وتمهيداً لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم ، وإنْبَاءِ الذين أضمروا الكفر نفاقاً بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهم ابتداءً من قوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] الآيات ، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار .
وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر ، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يُستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى : { مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة .
وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل ، كما سيأتي في قوله : { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } ، وأنهم كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفُوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية .
والاشتراء : مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد ، كما دل عليه قوله : { وعداً عليه حقاً } بمشابهة الوعدِ الاشتراءَ في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر .
ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صِيغ الاشتراء أدخلت هنا في { بأن لهم الجنة } لمشابهة هذا الوعد الثمنَ . وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها .
والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة . وهو المناسب لقوله بعد : { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } .
ويكون معنى قوله : { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل } ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختِم الرسالة . وهو ما أشار إليه قوله تعالى : { والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى قوله ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل إلى قوله { ليغيظ بهم الكفار } [ الفتح : 29 ] .
ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أنسب لقوله : { في التوراة والإنجيل } ، وحينئذٍ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من أتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب . فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز ، وبذلك يكون فعل { يقاتلون } مستعملاً في حقيقته ومجازه .
واللام في { لهم الجنة } للملك والاستحْقاق .
والمجرور مصدر ، والتقدير : بتحقيق تملكهم الجنة ، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلاً كان هذا البيع من جنس السلم .
وجملة : { يقاتلون في سبيل الله } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول : كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم ؟ فكان جوابه { يقاتلون في سبيل الله } الخ .
قال الطيبي : « فقوله { يقاتلون } بيان ، لأن مكان التسليم هو المعركة ، لأن هذا البيع سَلَم ، ومن ثَم قيل { بأن لهم الجنة } ولم يقل بالجنة . وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله : { وعداً عليه حقاً } ، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة . ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن » اهـ . وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلاً عكس ما فسرنا به آنفاً .
وقوله : { فيَقتُلُون ويُقتلون } تفريع على { يُقاتلون } ، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين . وقرأ الجمهور { فيَقتلون } بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول . وقرأ حمزة والكسائي بالعكس . وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو ، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة .
و { وَعدا } منصوب على المفعولية المطلقة من { اشترى } ، لأنه بمعنى وعد إذ العِوض مؤجل . و { حقاً } صفة { وعْداً } . و{ عليه } ظرف لغو متعلق ب { حقاً } ، قُدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف ( على ) من معنى الوجوب .
وقوله : { في التوراة } حال من { وعداً } . والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب ، أي مكتوباً في التوارة والإنجيل والقرآن .
وجملة : { ومن أوفى بعهده من الله } في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله : { وعداً عليه حقاً } ، أي وعداً حقاً عليه ولا أحد أوفى بعهده منه ، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملاً للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال : ومن أوفى بعهده من الله إنكاراً عليه .
و{ أوفى } اسم تفضيل من وفّى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله .
و{ مِن } تفضيلية ، وهي للابتداء عند سيبويه ، أي للابتداء المجازي . وذُكر اسم الجلالة عوضاً عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال . والعهد : الوعد بحلف والوعد الموكد ، والبيعة عهد ، والوصية عهد .
وتفرع على كون الوعد حقاً على الله ، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد ، أنْ يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا ، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة . وأضيف البيع إلى ضميرهم إظهاراً لاغتباطهم به .
ووصفه بالموصول وصلته { الذي بايعتم به } تأكيداً لمعنى { بيعكم } ، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف .
وجملة : { وذلك هو الفوز العظيم } تذييل جامع ، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيْه . وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية والوصف ب { العظيم } المفيد للأهمية .